(بين المعرضين والمستقيمين)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
ما هو مقصد هذا المقطع وما هي مناسبته لمقصد السورة ولما بعده؟
هذا المقطع هو أول مقطع في السورة، وهي تبدأ به، والذي ينظر نظرة شاملة مستوعبة بعيدا عن التفاصيل، يرى أن المقطع قد ابتدأ بالكلام عن المعرضين الكافرين ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) وانتهى بالحديث عن فئة أخرى مناقضة لهم تماما هي فئة الذين ( قالوا ربنا الله ثم استقاموا )، وأما جسم المقطع فقط امتلأ عن آخره بنقاش مع الفئة الأولى وتفنيد شبهاتهم ورد أعذارهم في إعراضهم، وقد ركزت على أمرين اثنين:
الأول:نفي أن يكون هذا الإعراض عن جهل أو خفاء حقيقة، أو مستندا إلى عقل أو نقل، ولكن مرده إلى الاستكبار كما جاء في الآيات قبل الأخيرة في المقطع.
الثاني: نفي زعمهم كذب النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته التي جاء بها، وبيان حقيقة دوره في هذه الرسالة واستحالة أن تكون فرية قد أتى بها من عنده، ولما لم يكن بعد الكذب إلا الصدق كان أحق الناس به، بدليل شهادة شاهد من بني إسرائيل المعروفون بالتعصب لدينهم.
بعد هذا كله لم يكن إلا الكبر وغمط الحق سببا للإعراض .
ثم تخلصت الآيات تخلصا حسنا إلى عرض صورة القوم المقابلين فجمعت حاليهما في جملة واحدة تبين الغرض من إنزال الكتاب ( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) ثم شرعت في وصف أحوال هؤلاء المحسنين، لينتهي المقطع بهذا الوصف.
ما دلالة البدء بقوله ( العزيز الحكيم ) في أول السورة؟
هذه البداية هي ذاتها في الزمر والجاثية، ولا بد أن الكلام في هذه السور له أطياف وظلال رادة إلى هذه الجملة على الرغم من اختلاف هذه الظلال عن بعضها بين سورة وسورة، فالظلال المنعكسة من سورة الزمر – التي تتحدث عن التوحيد – على كلمة العزيز الحكيم، مختلفة عن الظلال في سور الجاثية التي تهدد المستكبرين، ومختلفة كذلك عن الظلال في سورتنا هذه، وهذا جانب مهم جدا في كلام الله جل وعلا حيث أن موقع الكلام أو الجملة في سياقه يعطيه أبعادا مختلفة وانطباعات في نفس الإنسان تختلف بين سورة وسورة، ليكون للكلام طعم في كل موضع.
ما دلالة قوله تعالى ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون) بعد قوله تعالى ( إلا بالحق وأجل مسمى )؟
العلاقة والمناسبة بين هذين الجزئين دقيقة جدا، ولكنها مهمة جدا كون الجملة الثانية هي التي تمثل مساحة هامة من مقصد السورة، ألا وهو ( الإعراض )، وقد يظن القارئ المتعجل أن الكلام عن الكافرين وإعراضهم عن الإنذار، يقتضي أن يكون مسبوقا بكلام فيه بيان أحوال الناس، وفيه حديث عن الإنذار، إلا أن الواقع أنها مسبوقة بكلام عن الخلق بالحق وبأجل مسمى، فتولد عن هذه الثنائية وهي خلق السموات والأرض بالحق، وكون هذا الخلق بأجل مسمى، معنى جديد ألا وهو إنذار الخلق بالحساب الكائن في هذا الأجل المسمى، وعلى هذه الأساس قامت الجملة التالية وارتفع بناؤها وهي تلبس هؤلاء الناس بالإعراض في مقابل هذه النذارة الشديدة.
اللافت للنظر في هذه العلاقة أمران:
الأول: مناسبة الجمل اللاحقة لمعان ضمنية غير مباشرة في الجمل السابقة، وهذا باب مهم في علم المناسبات.
الثاني: وهو مبني على الأول، أن إدراك مثل هذه المناسبات لا يكون إلا بإمعان النظر وتكراره مرة بعد مرة في الآيات، وكل هذا بعد توفيق الله عز وجل وهداية عبده إلى أسرار مثل هذه المناسبات.
ما مناسبة ذكر الشرك في السموات بعد ذكر الخلق في الأرض؟
في هذه الآية بدأ الاستدلال بطلب أدنى ( أروني ماذا خلقوا من الأرض ) ثم ثنى بطلب أعلى وأكثر بعدا وهو ( أم لهم شرك في السموات ) فكانت هذه مناسبة الترتيب، البدء بالأدنى ثم الأعلى.
والآية من الاحتباك ذكر الخلق أولا دليلا على حذفه ثانيا والشركة ثانيا دليلا على حذفها أولا.
ما مناسبة الأمر بالإتيان بالكتاب ثم الأثارة من العلم؟
هذان الأمران الأول: الكتاب والثاني: البقية من العلم ليسا إلا مطالبة بالإتيان بدليل نقلي بعد أن طالبهم بدليل عقلي على معتقدهم، فإن الإيمان لا بد أن يؤسس على برهان قاطع، برهان من العقل أو برهان من النقل، أو من كليهما معا، ولو قلنا إلا بكليهما معا لما كان ذلك ببعيد.
وبدأ بمطالبتهم بكتاب قبل القرآن فيه مثل ما يدعون، ثم وسع عليهم فطالبهم ببقية بقيت عندهم يروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب، و مثل هذا التوسع ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من هذا أشد تبكيتا لهم وقطعا لدعواهم.
ومما ينبغي هنا لفت النظر إليه، هذا التوسع وهذا الإرخاء في العنان لهم وإعطائهم كل فرصة ليثبتوا ولو على سبيل الكذب ما هم عليه، حتى إنهم لو قالوا خصصنا بعلم ذلك وجاؤوا بأسطورة، أو كذبوا كذبة، لكان ذلك جوابا، ولكن القرآن يعلم أنهم وإن ضلوا كل الضلال إلا أن لهم خلقا لا زال يعصمهم من الكذب في هذا الباب، ومن ثم صاروا خير أجيال الأرض.
ما وجه ذكر خصوص ( وكانوا بعبادتهم كافرين ) مع أن هذا داخل في قوله ( كانوا لهم أعداء ) ؟
صحيح أن وجود العداوة بين المعبودين وبين عابديهم داخلة ضمن كفرهم بعبادتهم، إلا أن ذكره صريحا بعد هذه الدلالة الضمنية يدلك على أنه من المعاني ذات الشأن البارز في الغرض الذي سيق الكلام لأجله، إذ أن ذكر معنى متضمنا صريحا بعد الكلام يدل على أهميته وضرورة استحضاره.
ما دلالة الإفراد في قوله ( ومن أضل ) ثم الجمع في قوله ( دعائهم )؟
هذا معناه أن هؤلاء الذين هم أضل الضالين نمط واحد، وصورة واحدة كأنهم رجل واحد، وحتى أجيالهم المتعاقبة بمثابة رجل واحد، وأن بعضهم من بعض لا يختلف أولهم عن آخرهم.
ما مناسبة الإنكار بحرف الاستفهام دون حرف النفي؟
كان يمكن أن يقال ( ولا أضل ممن يدعو من دون الله ) إلا أن الآيات سلكت مسلكا آخر في الكلام، وأتت بالإنكار بحرف استفهام، لأن السياق سياق محاججة ومناظرة، والاستفهام أدعى ليعود السامع إلى نفسه، ويراجع الأمر في نفسه، فإن الإنسان لا يكذب نفسه.
ما مناسبة قوله تعالى ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) بعد ما سبق الكلام فيه ؟
الجواب على هذا السؤال في نقطتين:
النقطة الأولى: أن الكلام هنا هو في وصف أحوال إعراضهم، وليس هذا بعيدا فلا بد – باعتبار أن موضوع السورة بيان عاقبة المعرضين – من تعريف الإعراض وبيان أحواله وحقيقته ورد شبهاتهم وتفنيدها، وليس هذا ببعيد عن موضوع السورة ولا غريبا في سلسلة الأفكار فيها، فالأول حديث عن المعبود بغير الحق ( كفر بالله ) والثاني رد الحق الذي جاء به صاحب الرسالة ( كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم )، والأول رد ( لا إله إلا الله ) والثاني رد ( محمد رسول الله )، ومن هنا يبدأ الكلام عنه، وبهذا يكتمل جزئي الكفر.
النقطة الثانية: وهي الجانب الآخر في حديثنا عن المناسبة، وهي الروعة التي تأخذك حين لا يدعك البيان في الكتاب العزيز في واد واحد من أوديته، وإنما يدخل بك من عالم إلى آخر حتى تشرع وأنت في صحبته أنك مرتحل دائما، وتطوف في عوالم لا ترى منها شيئا في عالم شعر القوم الذين نزل فيهم، وهذا من أعظم جوانب روعة القرآن، ولو راجعت الآيات منذ بداية السورة لوجدت نفسك أولا في مواجهة خلق السموات والأرض بالحق، ثم إشارة إلى فناء كل هذا العالم ( وأجل مسمى )، ثم مع الذين أنذروا فأعرضوا، ثم في بيان إعراضهم بدعائهم غير المعبود بالحق، وكيف كان باطلهم ذلك، ثم يوم الحشر، ثم المنازعة بين العابدين وآلهتهم، ثم تسمع إعلان هذه الآلهة كفرهم بمن عبدوهم وهكذا، تراجع صورا مختلفة وأحداثا وأشخاصا وآلهة ليست كاذبة لأنها ثم تدع الألوهية ولم ترضاها.
ثم فجأة، تنتقل الآية بك من زحام المحشر وما فيه من منازعة، عائدة إلى الحياة الدنيا وكأن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلو على قومه آيات الله والوحي ينزل عليه، وهم يردون آياته، فصرنا في مشهد آخر فيه آيات تتلى وناس تميع وتروغ،.
ما مناسبة العطف بحرف الإضراب في قوله ( أم يقولون ) بعد العطف بالواو؟
العطف بالإضراب هنا يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وكأن المعنى: دع قولهم هذا سحر مبين واستمع لما هو أعجب وهو قولهم: افتراه، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر.
ما مناسبة الاختصار في رد الشرك والإسهاب في رد إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؟
جاء رد الشرك مختصرا في مقابل رد إنكار النبوة لأنه أكثر وضوحا، وحقائق أدلة الوحدانية ماثلة في السموات والأرض، وصارت كأنها معلومة من الدين بالضرورة، فالله معروف بالفطرة لا يحتاج إلى طول بيان، بخلاف دلائل النبوة فإنها ليست بظهور دلائل الوحدانية المستقرة في النفوس، بل لا يسأل عنها إلا من سمع الرسالة أصلا بخلاف التوحيد،
أين الرد على هذه الشبهة شبهة كون الرسالة سحرا؟
قبل أن تذكر الآية وصفهم الرسالة بأنها سحر عل سبيل الإنكار والاستهجان، وصفت الآيات بأنها ( بينات ) توطئة وتهيئة لذكر هذا الرد الشنيع من قبلهم، ثم أتت بكلمة ( لما ) الدالة على أن هذا الاتهام جاء مباشرة دون ترو أو مراجعة.
ثم انتهت الآية بذكر وصفهم بالسحر على الرغم من ظهور الآيات، وبشكل عجل دون ترو أو تدبر، هذا الوصف الذي لا تكاد تتخلف أمة عن مقابلة رسالة نبيها به، ولم تذكر الآيات ردا على هذه الشبهة لعدم وجود مسكة من منطق أو عقل فيها، فإن القرآن لم يدع شبهة إلا وردها، وهنا جاء الرد مخيفا وفيه الكثير من التهكم، ولو تساءلنا أين رد هذه الشبهة، لما وجدنا أي غضاضة في القول أن رد هذه الشبهة موجود فيها، إذ أن هذه الكلمة بالذات تخفي رواءها عجزا عن المواجهة، وتوشك أن تكون إقرارا بأن ما يواجهونه حجة لا تقاوم، فإن السحر قوة خفية تغلب على أنفسهم، وهذا تماما ما كانوا يشعرون به إزاء هذه الآيات الظاهرات، فلم يكونوا يملكون مواجهتها إلا بهذا الوصف، وهذا الوصف بحد ذاته فيه رد على إنكارهم للنبوة، وهذه هي طريقة القرآن لا يصرح وإنما يختصر في الكلام ليحث القارئ على التفكر والتأمل ليصل إلى المعاني المطلوبة، وليأخذ كل إنسان من هذه المعاني على قدر نصيبه مما يفتح الله عليه من الفهم بعد بذل الجهد واستفراغه في مثل هذا.
أضف إلى أن مثل هذا التعنت لا يستحق ردا لأنه ظاهر الكذب ظهورا لا مجال فيه للمناقشة.
ما مناسبة قوله تعالى ( أم يقولون افتراه )؟
لازال السياق في رد شبهاتهم حول ( الرسالة ) وحول ( محمد رسول الله )، فذكرت الآيات قولهم ( هذا سحر مبين )، ثم انتقلت إلى رد شبهة أخرى وهي قولهم ( افتراه ) أي اختلقه من عند نفسه، فالأولى رد السحر والثانية رد الكذب.
ما دلالة قوله في بداية الرد ( قل )؟
الإتيان بالأمر بالقول في بداية الرد، فيه تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وإكرام له، إذ أنه بمثابة تولي الله الرد عليهم بنفسه، خاصة وأن ذلك كان يشتد على النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكذب عليهم وقد لبث فيهم سنين وهو صادق بأبي هو وأمي.
أين الجواب على شبهتهم ( افتراه )؟
بعد أن ذكرت الآيات شبهتهم في اتهامهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، جاءت هذه الجملة ( فلا تملكون لي من الله شيئا )، وليس هذا الجواب، لأن معناه غير متوقف على الشرط، فهم لا يملكون له شيئا سواء افتراه أم لم يفتره، والجواب محذوف، وهذا دليله، والتقدير ( إن افتريته عاقبني ربي أشد العقاب حتى إنكم وأنتم المعارضون لي سترق قلوبكم لما سينزله الله علي من العذاب، إلى درجة أن أنفسكم ربما حدثتكم بمحاولة دفع ذلك عني ولكنكم لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا، وهذا غاية التهديد والغضب.
ما دلالة بناء قوله تعالى ( هو أعلم بنا تفيضون فيه ) على القطع والاستئناف؟
إن استخدام مثل هذا الأسلوب في السياق يدل على أن هذه الجملة التي أتت بهذا البناء تحمل معنى ذو خطر وبال، فكأنها من باب لفت النظر لها للتركيز عليها والاهتمام بها، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقا.
ما مناسبة قوله جل وعلا بعد هذا ( هو أعلم بما تفيضون فيه … ) إلى آخر الآية؟
الكلام قبل هذه الجملة ( هو أعلم بما تفيضون فيه ) كان في نقطتين:
الأولى: ذكر أحد أسباب إعراضهم وهو اتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالكذب.
الثاني: تفظيع هذه الاتهام ورده بأبلغ عبارات التهديد بمن يكذب على الله عز وجل، وأنه ينزل عليه عذاب لا يطاق دفعه.
ثم مضت الآيات في هذه الجمل الثلاث الذي تستقل كل جملة منها بمعنى تؤديه، لتشير إلى أنهم قد وقعوا في شر مما اتهموا به النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب، ألا وهو الإكثار من الكلام في آيات الله عز وجل، سحر وكهانة وشعر وافتراء، على الرغم من علمهم بأنه حق وأنه لم يأت به من عنده، وأن مثل هذا لا يمكن أن يفترى، والتهديد هنا جاء بعلم الله بما يقولون، وأنه مطلع على ذلك، وهذا العلم يستوجب جزاء وهذا من النذارة.
وهذه الجملة المستأنفة تكشف سرا من أسرار نفوسهم وهذا السر هو علمهم بأنه عليه السلام ليس بمفتر.
ما مناسبة التذييل بقوله (وهو الغفور الرحيم ) بعد كل هذا التوغل في التهديد والوعيد؟
لا شك أن الآيات السابقة كانت ناطقة بالغضب الشديد وكان المتوقع أن تكون الفاصلة مشربة من معنى الجمل قبلها وأن يقال مثلا، وهو شديد العقاب، أو وهو سريع الحساب، أو نحو ذلك، ولكن الفاصلة خالفت وفاجأت وأدهشت ولفتت إلى أن الله سبحانه أرحم بك من الذي يؤمنك حتى تبلغ الخوف، وأن الترغيب ملازم للترهيب، وأن باب القبول مفتوح أبدا لا يغلق ما دامت الأنفاس تتردد مهما بلغ الطغيان والعصيان.
كما أن في هذا الختام ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في الصفح عنهم فيما نسبوه إليه في افتتاحها من الافتراء وندب الإحسان إليهم وترغيب لهم في التوبة ومنع من أن يقولوا فلم لا يعاجلنا بالعقوبة على نسبتنا لك إلى الكذب إن كنت صادقا بأنه يجوز أن يمهل الكاذب.
ما مناسبة قوله تعالى ( قل ما كنت بدعا من الرسل .. ) إلى آخر الآية بعد ذلك؟
لندرك مناسبة هذه الجملة لما قبلها نراجع حركة المعاني في الكلام السابق، حيث بدأ بدحض عبادة ما يعبدون من دون الله ، ثم دحض شبههم حول الرسالة، ثم انتقل الكلام هنا إلى الحديث عنه عليه السلام، وحاله وحال الأنبياء من قبله، وفي هذا استمرار لما سبق من الحديث عن الرسالة وصاحبها، وتهيئة لما بعدها من الحديث عن موسى عليه السلام وكتابه، وقد تحدثنا سابقا عن سبب الإسهاب في الحديث عن الرسالة وصاحبها، وجاء هذا الرد دون عطف لأن المقصود الانتقال من رد على شبهاتهم إلى رد أقوى منه، وسيأتي لاحقا أيضا رد أقوى في قوله تعالى ( قل ارأيتم إن كان من عند الله ).
وفيها أيضا دعوة رقيقة لهم للإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله عز وجل ( وهو الغفور الرحيم )، وكأنها تقول لهم: ما لكم لا تؤمنون؟ إذ لم يأت رسولكم بغريب ولا شاذ؟ وإنما أتاكم بما أتى به إخوانه السابقون؟ رسالة يحملها لكم من الله يبلغكم إياها بلاغا مبينا؟ دون أن يكون له من الأمر شيء، إنما هو البلاغ والاتباع.
ما مناسبة الجمل الأربع ببعضها في الآية، وما علاقتها بحركة المعاني؟
المتدبر المتأني للآية يرى أنها مؤلفة من أربع جمل:
الأولى: أنه لم يشذ عن طريق الرسل.
الثانية: أنه لا يعلم إلا ما علمه الله .
الثالثة: أنه متبع للوحي لا غير.
الرابعة: أنه نذير موضح لا غير.
ثم أنك ترى أن لكل جملة منها تستقل بمعنى، وكل جملة بمعناها صالحة لأن تحكى وحدها من غير أن تكون مرتبطة بما قبلها ولا بما بعدها، ثم تراها في نسقها متماسكة مترابطة، ومثل هذا التأليف وجه من وجوه الإعجاز كما يرى الباقلاني، لا يأتي بمثله إلا الله عز وجل، ومثل هذا التأليف موجود في مواضع عديدة من كتاب الله عز وجل ومن تأمل في هذا وجد عجبا.
كما أن المتدبر المتأني يرى أن الجملة الثانية تولدت عن الأولى، وجاءت معطوفة على الأولى، مما يعني أن لها معنى مستقلا، بينما جاءت الثالثة دون عطف مما يعني أنها مؤكدة للثانية، أما الرابعة فقد جاءت معطوفة على الجملة الأولى لا على الثالثة، ويكون المعنى: قل ما كنت بدعا من الرسل وقل ما أنا إلا نذير مبين، ومن ثم جاءت هذه الجملة شاملة لمعاني الجمل الثلاث ومعطوفة على الأولى وبهذا العطف رجع آخر الكلام على أوله.
كله هذا وأنت تنتقل بين جمل يؤكد بعضها بعضا، وتريد أن تستخرج من كل جملة خصوصيتها أو مذاقها، لأن الوقوع على خصوصية كل جملة ومذاقها هو ضالة الباحث في أسرار البيان القرآني.
ما مناسبة بداية الآية ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به) بنفس العبارة في قوله ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله )؟
لا شك أن مثل هذا التماثل له دلالته، وأن مثل هذه الدلالات اللغوية يجب ألا تمر دون أن نعرف ما وراءها من الدلالات، فهي تشير إلى علاقة شبه بينهما بدلالة البداية المطابقة في كليهما، والمناسبة بين الآيتين فيما يظهر، أن كفر قريش بما أنزل عليهم مع إيمان شاهد من بني إسرائيل به، مماثل في الفساد وفي افتقاده لأي أثر من منطق لدعائهم آلهتهم التي من دون الله الذي خلق السموات والأرض بالحق وأجل مسمى.
ما مناسبة هذه الآية لهذا الموضع وما علاقتها بما قبلها؟
لا زال السياق في الحديث عن ردهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعن إعراضهم عن الرسالة، وكفرهم بها على الرغم من علمهم الأكيد بأنه من عند الله، وقد سلكت هذه الآية في الرد عليهم مسلكا جميلا، ألا وهو مسلك الحوار والمناقشة، بعدما نقضت ما قالوه في الكتاب من كونه سحرا أو من كونه مفترى، وأن الذي أنزل عليه لم يخرق ناموسا وإنما كان حاله كحال من سبقوه من الرسل.
وقد عرضت احتمالا، وفرضت فرضا، وسألت: ماذا سيكون لو أن أحدا ممن عنده علم من النبوات آمن به وكفرتم أنتم؟ أليست هذه الصورة دالة على أنكم أولى أن تكونوا أسبق للإيمان باعتبار أنها نزلت على رجل منكم، وأنه صاحبكم وأنتم أعرف الناس به، أليس غريبا أن يؤمن به الغرباء ويكفر به أهل قرابته؟ أليس غريبا أن ينزع اليهودي يهوديته وقد عرف تشبثه بها ويدخل في الدين الذي أعرضتم عنه وكفرتم به؟
مثل هذا لا يكون إلا حين يرى ذلك الرجل حقا لا يستطيع الروغان عنه، ولا يحيد عنه إلا مستكبر.
ما دلالة الإشباع في قوله عز وجل ( وشهد شاهد من بني إسرائيل ) ؟
الإشباع في الألفاظ لاستيفاء معنى من المعاني في سياق ما يدل على أهمية هذا المعنى ويراد لأجل لفت النظر إلى هذه الفكرة التي وقع فيها الإشباع.
ما المراد بقوله تعالى ( وشهد شاهد من بني إسرائيل ) ؟ وما مالمقصود بقوله ( مثله ) ؟
أوجه ما ظهر لنا أن المقصود بالشاهد عبد الله بن سلام، وما جرى من قصة إسلامه لاحقا في المدينة، ولأن الآية مكية، كان فيها إخبار بالغيب، وهذا متناسب غاية التناسب مع ما سبق من الحديث قصر علم الغيب على الله وحده، فكان في هذه الآية شاهد واضح على أن هذا الكلام ليس إلا من عند الله.
وأما كلمة مثله فتحتمل معنيان:
الأول: أنه شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما هو موجود في الكتاب من المعاني كالتوحيد، والبعث والجنة والنار وحرمة الدماء والأموال .. إلخ.
الثاني: أن المراد بالكلمة : ما أضيفت إليه، ويكون المعنى:شهد شاهد من بني إسرائيل على القرآن، فآمن به لأنه رآه امتدادا للنبوات.
أين جواب الشرط في قوله ( أرأيتم ) ؟
جواب الشرط محذوف، وسر حذف الجواب هو أن تذهب النفس فيه كل مذهب، باحثة عن الغائب الذي سكت الكلام عنه عن عمد، وسكون اللام عن الكلام يعني أن الكلام أنطق ما يكون إذا لم ينطق، وأتم ما يكون بيانا إذا لم يبن، فإنه بعد البيان العالي في توضيح ، من كفر الضالين، واستكبار المغرورين، وشهادة الصادقين، تبحث النفس عن الجواب، فلا تجده منطوقا، فتدخل في تهويل واستعظام معنى كانت تتوقع أن تسمعه فسكت البيان عنه.
وقد أشارت الجملة الأخيرة ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) إلى الجواب المحذوف، هذه الجملة المستأنفة، والتي نقلت الكلام إلى العموم بعد أن كان على الخصوص، تأليفا لقلوبهم بدلا من الخطاب المباشر.
ما مناسبة الآية في قوله ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا .. ) لما قبلها؟
يمكن أن يقال أن هذه الآية هي الجولة الأخيرة في نقاشهم، وهي تبين درجة الإفلاس التي وصلوا إليها، وتكشف جعبتهم الفارغة من كل حجة أو منطق في ردهم لهذا الحق المبين، كما تكشف الدافع الحقيقي وراء ردهم للحق ألا وهو الاستعلاء والاستكبار، وهذا واضح حيث جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى ( واستكبرتم )، إذ أن قولهم ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ناتج عن الاستعلاء، ولو قلنا أن الآية توسعت في شرح مثل هذا الأمر لم يكن بعيدا.
فما إن فرغت شبهاتهم وتهاوت أمام صوت الحق وحججه، حتى جنحوا نحو الكلام الذي ليس له أي قيمة أو وزن في عقل أو منطق، وعللوا ردهم للحق بأنه لو كان حقا فعلا فليس لهؤلاء الذين أخذوا به أن يسبقوهم إليه إذ أنهم هم الأحق بالحق كونهم من كبار القوم وسادتهم، فإن الحق ليس ما سبق إليه السادة أو الذين يتوهمون أنهم سادة، وإنما هو ما يقرره العقل السليم والتفكير الحر.
ما مناسبة تكرار كلمة ( الذين كفروا ) للمرة الثالثة في هذه السورة؟
كان يمكن أن يقال ( الذين أشركوا ) وهو أشبه بقوله تعالى ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ) لأن صنيعهم هذا هو عين الشرك، وكان يمكن أن يقال ( الذين كذبوا ) لأن قولهم سحر أو افتراء من محض الكذب، إلا أن الآيات لا زالت تكرر كلمة ( الذين كفروا ) لتشير إلى أنهم عندما أشركوا أو كذبوا كانوا يعلمون أنهم يطمسون الحق بالباطل، فكان أعراضهم عن الرسالة إعراضا على الرغم من علمهم بأنها حق، وأن هذا العلم مستقر في نفوسهم، ولكنهم آثروا تغطية هذا الحق ورده على الرغم من علمهم الأكيد به.
وفي هذا أيضا رد لعجز الكلام على صدره في قوله تعالى ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون )، ليدخل الكلام بعدها في شيء جديد.
كما أن تخصيص وصفهم بالذين كفروا هنا مناسبة لبقية الآية في بيان سبب ردهم لهذا الحق وأنه الإعراض ليس إلا.
ما دلالة وقوع قولهم ( فسيقولون ) في صيغة المستقبل مع أنه كان يجب أن يكون في الماضي؟
إذ هنا للتعليل، ومعنى الكلام: ولأنهم لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم، هذا من ناحية معناها، أما من ناحية البحث في تتمة الكلام، فالمفروض أن يكون الكلام ( وإذ لم يهتدوا به قالوا هذا إفك مبين ) لأن هذه الجملة ( وإذ لم يهتدوا به ) ابتدأت بإذ التي تدل على الزمن الماضي والمفروض أن يكون العامل أي تتمة الكلام في الجملة المرتبطة بها في الزمن الماضي، إلا أن مجيء العامل بالزمن المستقبل أثار كلام العلماء في هذه النقطة، وأرجح ما قيل أن السين هنا وإن كانت دالة على المستقبل في أصل معناها، إلا أنها تحمل معها دلالة الماضي والحاضر، ويكون المعنى أنهم قالوا ويقولون وسيقولون هذا إفك قديم، ولو قيل ( وإذ لم يهدتوا به قالوا ) لذهب هذا المعنى الجليل الذي في الآية، فالكلام يحمل رسالة لأهل الإسلام مفادها: اعلموا ذلك جيدا يا أهل الإسلام، أن هؤلاء المضادين لدين الله سيفعلون هذا في كل جيل، وأنه لن يخلوا مكان ولا زمان في الأرض من ضال يقول في كلام الله هذا القول، وأن صراع الباطل مع الحق سنة الله الجارية إلى يوم القيامة، احتشدوا لهذه المواجهة وأعدوا لها ما استطعتم من قوة.
ما مناسبة ذكر وصفهم للإفك بالقديم ههنا؟
مع أن الآية مناسبة لقول الولد العاق الكافر في القسم الثاني ( أساطير الأولين )، ومع أن هذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ذكر فيه الإفك مع القدم، إلا أنه لم يتبين لنا وجه وصف الإفك هنا بالقديم دون غيرها من الصفات، ولعل الله يفتح لنا بابا من أبواب الفهم لنصل إلى مراده في ذلك، وألا يحرمنا فهم كتابه بذنوبنا.
ما مناسبة الحديث عن التوراة هنا؟
جاءت هذه الآية ردا على قولهم ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) وعلى قولهم ( هذا إفك قديم ).
فأما الرد على قولهم ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ): فإنها وصفت كتاب موسى بأنه إمام يقتدى به، وسبق الكلام عن إيمان شاهد من بني إسرائيل، كما سبق الكلام عن ( ما كنت بدعا من الرسل )، ويستفاد من مجموع هذا أن القرآن قد أتى بمثل ما جاءت به التوراة من الهدى والرحمة، فهذا القرآن خير سبق إليه من سبق.
ما دلالة إتيان النذارة بصيغة الفعل المضارع والبشارة بالاسم؟
جاء الإنذار بصيغة المضارع لأن الإنذار يتجدد ويحث شيئا فشيئا وجاءت البشرى بصيغة الاسم لأنها ثابتة دائمة، والذين ظلموا هم المذكورون في آية شاهد بني إسرائيل ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين )، وهم الذين افتتحت السورة بالحديث عنهم فأعرضوا عما أنذروا، وسبق للسورة أن أخبرت عن شناعات أقوالهم.
ما وجه وصفهم هنا بالظالمين والعدول عن وصفهم بالكفر؟ وما وجه الانتقال إلى الحديث عن المحسنين؟
هناك عدة أوجه لهذا الأمر:
الأول: أن التعبير هنا بالظلم عن الكفر يفيد من جهة تبشيع الظلم والتنفير منه في كل صوره سواء أكان كفرا أم معصية.
الثاني: هذا التعبير يفيد أنهم ظلموا أنفسهم وفيه تلويح بالعذاب، فإن التعبير بالظلم عن الكفر فيه مزيد غضب.
الثالث: مقابلة المحسنين الذين سيأتي ذكرهم في الآية التالية، والقصد من ذلك جمع كل ما سبق من أنواع كفرهم إلى أن انتهى الكلام إلى قوله ( الذين ظلموا ) مقابلة للمحسنين، وهذا الوجه الأخير إشارة إلى نهاية الحديث عن الذين كفروا وبداية الحديث عن الذين آمنوا، الذين افتتح الكلام عنهم بقوله ( وبشرى للمحسنين )، إذ لا يتم الكلام عن الذين أعرضوا إلا بالكلام عن الذين أقبلوا وأطاعوا وأحسنوا.
ما وجه المقابلة بين الظلم والإحسان؟
لم يتبين لنا وجه ذلك لعل الله يفتح لنا معنى في قابل الأيام.
ما مناسبة الحديث عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا؟
هذا الحديث هنا لوصف الطائفة المقابلة لطائفة المعرضين الكافرين الذين سبق الحديث عنهم، وصدق الرازي حين قال: ( واعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها ذكر بعذ ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )
ما دلالة البداية بهذا الشكل في هذه الآيات ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )؟
إن قطع الكلام واستئنافه وبناؤه على التوكيد كل ذلك له إشارات ودلالات تدعو إلى مراجعة معنى الكلام الذي بني على الاستئناف ومراجعة الكلام بعده الذي أفضى إلى القطع، وإشارة واضحة إلى أهميته وضرورة الاعتناء به، وذكر المحسنين في آخر الجملة ولم يسبق الحديث عنهم ولا عن أحوالهم مشوق إلى معرفة الأحوال التي عليها يكون هؤلاء الذين يسترهم الله سبحانه، وهذا بخلاف الظالمين المنذرين الذين مضى الحديث عنهم وعن أحوالهم وأوصافهم.
ما مناسبة الفصل بين التوحيد والاستقامة بلفظ ثم الدال على التراخي؟
إن لفظ ثم هنا ليس معناها تراخي الزمن لشدة ارتباط الاستقامة بالإيمان، ولا تراخي الرتبة لأن التوحيد لا يعلوه رتبة، فهي أفضل ما يقول أهل الإيمان، وإنما لها دلالة أخرى ألا وهي أن استقامة الإنسان في تقلبه في حياته على وفق ما أمر الله ونهى شأو بعيد، ومرتبة لا تنال إلا بالمكابدة، ثم هو شأو بعيد لا يسعى أهل الله إلى شأو أفضل منه.
ما مناسبة ذكر الصلة ههنا ( قالوا ربنا الله ثم استقاموا )؟
هذا الوصف مقابل لكل ما سبق من الحديث عن صفات المعرضين:
قالوا ربنا الله مقابل للوصف ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله .. )
واستقاموا مقابل لقولهم ( هذا إفك قديم ) وقولهم ( افتراه ) إلى آخر ما سبق،
فالأولى في شهادة ألا إله إلا الله والثانية في الاتباع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهي شهادة أن محمدا رسول الله.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved