الكلام على الثلاثية الثالثة: ثلاثية الواجبات
1- النّهي عن قهر اليتيم قد يشعر بأنّه _صلّى الله عليه وسلّم_ قد قهر يتيماً قبل، فهل حصل مثل هذا وهل هناك دلالة عليه؟
النّهي هنا لا يعني البتّة أنّه قد قهر يتيماً قبل هذا، فهذه العبارة مذكورة على سبيل التّشريع وهي وإن كانت خطاباً مباشراً للنّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ إلا أنهّا للأمّة من بعده من باب أولى.
2- ما هو وجه ذكر القهر مع اليتيم والنّهر مع السّائل؟
القهر والنّهر فيه اختلاف في اللفظ، فالقاف في لفظة القهر حرف قوي مجهور مستعلٍ، والنون فيه رنين ولطف، وكأنّ القهر أعلى من النّهر، والقاف أقرب للحلق ولنفس الإنسان، فيكون تأثير القهر نفسيّ أكثر، أمّا النّون فتظهر من اللّسان لذلك كان النّهر يظهر من اللّسان أكثر.
اليتيم قد لا يكون فقيراً لكنّ مشكلته انعدام النّصير والمؤوي، والقهر ظلم الإنسان إلى درجة لا يستطيع أن يأخذ معها حقّه فتحصل معه مثل هذه الحالة، وهذا واضح في حالة اليتيم إذ لا يجد من ينصره.
وأمّا السّائل فعلى القول الأقوى أنّه سائل علم فالنّهر معه أنسب، فيجب استقباله وإجابته مهما كان سؤاله سخيفاً وبدهيّاً، وحتّى الصّغار يجب إجابتهم ولا يجوز تعنيفهم، وبعض النّاس وصلوا إلى الإلحاد لأنّهم لم يجدوا من يجيبهم على أسئلتهم، وأمّا إن كان سائل مال فنعطيه ولو شيئاً يسيراً.
3- ما وجه ذكر النّعمة في آخر السورة؟
ذكر النّعمة في آخر السّورة وكأنّ كلّ ما ذكر سابقاً نعم يجب الانتباه لها.
4- ما وجه ذكر الحقوق الثّلاثة في ثلاثيّة الحقوق على ما هي عليه؟
ذكر في هذه الثّلاثيّة ثلاثة حقوق : حقّ لليتيم وحقّ لسائل المال وحقّ لسائل العلم وحقّ لله، فقدّم اليتيم لأنّه أضعف ما يكون، وذكر ثلاثة حقوق للعباد وحقّاً واحداً لله تعالى وقدّم حقوق الضّعيفين على حقّه، وهذا من أعظم الإشارات إلى الاعتناء بحقوق الضّعفاء وأهمّيتها.
كما أنّه ذكر ثلاثة أمور من باب الشّكر العمليّ وأمراً واحداً من باب الشّكر القوليّ، وهذا دليل على أهمّية الشّكر العمليّ وتقديمه، حيث ذكره الله مقدّماً ،كما ذكره أكثر عدداً من الشّكر القوليّ المجرّد.
كما أنّ فيها توجيهاً للدّعاة بأن يكونوا هيّنين ليّنين قبل أن يتصدّروا للدّعوة، وأن يهتمّوا بتزويد أنفسهم بالرّحمة بقدر ما يهتمّوا بتزويدها بالعلم بل ربمّا أكثر “ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك”.
5- لمَ دمج سؤال العلم والمال في آية واحدة ولم يفردهما في آيتين منفصلتين؟
في هذا دلالات خلص لي منها أوجه:
الأوّل: التّشديد على أهمّيّة الهداية وكون عديمها يشبه حاله حال المسكين الّذي لا يجد قوت يومه فيضطرّ للسّؤال، فمهما بلغ الضّالّ من الغنى فإنّه لا زال محتاجاً، فحاجة النّفس للهدى لا تقلّ بحال عن حاجة الجسد لما يقيمه، فقوام الإنسان بكليهما ولذلك جمعهما الله في آية واحدة.
الثّاني: تشابه الحال من حيث الحاجة بين هذا وذاك.
الثّالث: الحفاظ على شكل نظم السّورة في ثلاثيّات والله أعلم.
6- ما هو وجه ذكر التّحديث بدلاً من الإخبار أو الكلام مثلاً ؟
الإخبار لا يقتضي التّكرار يكفي أن تقول الخبر مرّة واحدة ليكون إخباراً، أمّا التّحديث فيحمل معنى التّكرار والإشاعة والتّجديد مرّة بعد مرّة، ففي هذا اللّفظ إشارة إلى ضرورة تكرار الإخبار والمداومة على التّبليغ.
7- ما المقصود بالنعمة في قوله تعالى ( وأما بنعمة ربك فحدث)؟
قد يتبادر للذهن لأول وهلة أن المراد بالتحديث بنعمة الله هنا: أن يخبر الإنسان من حوله بما رزقه الله من نعم مادية فيقول مثلا: عندي من المال كذا ومن الأولاد كذا ومن النساء كذا وعملي فيه كذا. وهذا غير مراد البتة بهذا الشكل، بل إن مثل هذا مظنة إيغار صدور الناس عليه وربما أصيب بعين أو حسد حاسد.
وللمفسرين في هذا الأمر مذهبين:
الأول: أن النعمة هنا هي مطلق النعمة، سواء كانت مادية أو معنوية كنعمة الهداية الواردة في السورة، ولو قلنا بهذا يكون التحديث هنا على سبيل الاستشهاد على تعاقب الأحوال بالعموم لا بالخصوص.
والثاني: أن المقصود بالنعمة هنا ما امتن الله به على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من الوحي المباشر، وعلى أمته من بعده بما بلغها به من الوحي وهو قول مجاهد، وهو رأي وجيه، وهذا ما ترتاح إليه النفس وتطمئن، أن المراد بالنعمة هنا تبليغ الوحي وما يحمله من خير على الإنسان خاصة ما جاء في هذه السورة من السلوى والتثبيت والربط على القلوب، ومعرفة حقيقة الدنيا والاستعداد لما فيها من اللأواء والأذى، والصبر حين الشدة والشكر حين البسطة، والترغيب بالعواقب سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، والثقة بالله ووعده وسعة عطاءه ووفور رحمته واستمرار حفظه ورعايته وحياطته، مادام الإنسان مقبلا عليه، وهذا كله مقصد السورة ومحورها الذي تدور حوله.
ويكون التحديث هنا على النحو التالي:
يكون على سبيل الاستشهاد على معنى السورة ومقصدها وهو ( تعاقب الأحوال ) وليس بالضرورة أن يكون المتحدث يتحدث عن نفسه دائما، بل يمكن أن يستشهد على هذا المعنى بما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم كما استشهدت الآية، أو بما حصل مع إخوانه من الأنبياء عليهم السلام كما جاء هذا منثورا على طول الكتاب، أو بحوادث يعرفها المستمع لتكون دليلا على الفكرة، فيكون التحديث هنا على سبيل الاستشهاد على تعاقب الأحوال من غنى بعد فقر وجاه بعد قهر وهدى بعد ضلال.
7- ما هي أوجه تكريم النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم- في هذه السّورة ؟
يمكن تقسيم أوجه التّكريم إلى عشرين وجهاً:
1- إقسام الله فيما يخصّ شأنه بآيتين تتميّزان بالوضوح من ناحية وبالتداول والحركة والتّجدد من ناحية أخرى، والشّيء الّذي يلفت النّظر هو المتجدّد لا السّاكن، وكأنّنا في كلّ ضحى وكلّ مجيء ليل نذكره صلّى الله عليه وسلّم، خصوصاً ما أتبعها في سورة الشّرح من علوّ ذكره.
2- دفع دعاوى المشركين بألفاظها، وفيه ملمحان: الأوّل أنّ الله هو من تولّى الدّفاع عنه، والثّاني أنّه تولّى دفع التّهم بألفاظها وبمادّتها.
3- التّعبير بالنّفي مع الماضي بـ (ما) لأنّ الحديث يشعر بأنّ انقطاع الوحي يشعر بأنّ الله ودّع النّبيّ، ومظهر الوداع سيكون في الحاضر والمستقبل فكأنّ المعنى : لم يودّعك الله يا محمّد في ما مضى من الزمن وكنت يتيماً وعائلاً فكيف بعد أن يرسلك ويقرّبك يبعدك ؟
4- الّنفي بـ (ما) دون غيرها بما فيها من الامتداد، وكلّما كانت الكلمة فيها طول كلّما كان المعنى فيها أقوى وأطول وأشمل.
5- تولّي الدّفاع عن النّبيّ بنفسه جلّ وعلا، وهذه منقبة كبيرة، فالإنسان يشعر بفخر إن تولّى الدّفاع عنه كبير أو عالم فما بالك بربّ العالمين.
6- تقديم نفي التّوديع على نفي القلى، مع أنّ التّوديع ليس مكروهاً، فربّما يريد الإنسان مفارقة شخص دون أن يبغضه، ولكن نفى هذا الأمر للدّلالة على أنّ ما فوقه من باب أولى.
7- ذكر ضميره مع التّوديع ولم يذكره مع القلى، لأنّ التّوديع ليس فيه كراهية فلا بأس من ارتباط ضميرها مع الفعل، بعكس القلى ففيه كراهية ( أنا ما أهنتك ولا أسأت لك ) ( أنا ما أهنت ولا أسأت ) فالترّك ألطف وأحسن وقليل من ينتبه لهذا.
8- لم يوجد الضّمير مع القلى، ولا يقال أنّ ذلك لأجل تناسب نهايات السّور، فـالتّعليل المعنويّ أهمّ من الدّعاية الصّوتيّة.
9- تكرار كلمة ربّ مضافة إلى ضميره ثلاث مرّات، وهي تأتي في مواقع الحماية والحياطة والنصرة والعطاء، وموضوع السّورة يتناسب تماماً مع هذه السّورة.
10- تكرار كاف الخطاب في هذه السّورة دليل على حضور مخاطبته تسع مرّات وسبق ذكر كلمة الزّركشيّ.
11- تأكيد الخيريّة له بلام القسم للحكم بخيريّة الحكم المستقبل له من الحال الّذي هو فيه.
12- دلالة اللام في قوله خير لك وكأنّها خيريّة خاصّة له.
13- ذكر وصف الأولى دون الدّنيا.
14- ذكر الخيريّة عموماُ في قوله (خير) وهي من أحسن الألفاظ وأجملها، والذي يبحث عنه النّاس دائماُ وهذا اللّفظ موجود دائماً.
15- التّأكيد باللّام ولسوف.
16- دلالة سوف دون السين للدّلالة على امتداد العطاء حتى يتجاوز الحياة إلى الآخرة لأنّنا لا نستطيع تحديد حدّ له.
17- ذكر مادّة الإعطاء دون الإيتاء، والإعطاء يدلّ على تملّك المعطى ما يعطى، دون الإيتاء حيث يشركك غيرك فيها.
18- مجيء الفعل مضارعاً في قوله يعطيك للدّلالة على تجدّد العطاء، وأيضا الرّضى دليل على أنّ رضاك يتجدّد مع كلّ عطاء.
19- فترضى : هو عطاء يوصل إلى الرّضى، والإنسان بطبعه يصعب أن يرضى، لكنّه دليل على أنّه عظيم عطاء الله له صلّى الله عليه وسلّم.
20- ذكر الحالات الّتي كان عليها سابقاً وما يضادّها من عطاء الله، فذكر له اليتم ثمّ ما أعطاه ثمّ الضّلال ثمّ الفقر وما يضادّهما، وذكر عائل دون فقير لأنّ العائل هو الفقير صاحب العيال، لأنّ وضع العائل أشدّ من وضع الفقير، وليس الفقر ماديّاً دائماً من ناحية المعين الموجّه النّصير، فأغناه الله عن ذلك كلّه.
يحسن هنا التّنبيه إلى أمرين:
الأول: قراءة السّيرة من خلال القرآن لها طعم خاصّ، مثلاً غزوة تبوك : تركيز على نفوس النّاس قبل الغزو وأشياء لا يعلمها إلا الله ثمّ اعتذر المنافقون ولا نجد هنا الأحداث التّفصيليّة وكذلك في السّيرة نحاول تلمّس بعض ما في سور القرآن من الهدايات، وكذلك سورة النّجم فيها ثناء كثير على عقله ولسانه.
الثّاني: مظاهر التّكريم المنتشرة في كلّ صفحات المصحف:
– فمثلاً في سورة النّجم : نجد صوراً عظيمة من حفظ الله لنبّيه في صور متعدّدة:
**ثناؤه على عقله: (ما ضلّ وما غوى)،
**وعلى لسانه: (وما ينطق عن الهوى) وهذه الاوصاف ليست عاديّة فهي تشير أنه لا يقول أية كلمة إلا وحياً.. لذلك إن اختلف قوله وفعله نأخذ بقوله للآية، لكنّه قد يمارس بطبيعته البشريّة أشياء من فعل النّاس.
**وأثنى على جليسه ومعلّمه: (علّمه شديد القوى)
**وعلى بصره: (ما زاغ البصر وما طغى) وهذه الأشياء هي مصادر دخول الخطأ على الإنسان.
**وأثنى على صدره: (ألم نشرح لك صدرك)
**وأثنى على أخلاقه: (وإنّك لعلى خلق عظيم)
– ومن صور الثّناء عليه :
**العذاب يرفع عن الأمّة من أجل وجوده فيهم فقط وحتّى عن الكفّار: (وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم)، وذكر الضّمير فيه من اللّطف وجاء بكلّ أساليب النّفي العظمى : لام الجحود فشطر الآية الأوّل في الكفّار والثّاني في المؤمنين فيبقى الضمان الثّاني من أساليب التّكريم .
**لم يخاطبه باسمه بينما نادى يا موسى يا إبراهيم، ولم يذكر اسمه إلا في مرّات قليلة وهذا من أساليب التكريم لذلك ناداه كثيراً بالألقاب يا أيّها النّبيّ ومن الصّور اللّطيفة الغائبة كون الجواب ينزل عن طريقه فقوله “وإذا سألك عبادي” فقصد إظهار السؤال ليكون الطّريق الذي يصل الخير به إلى الأمّة هو عن طريق النّبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ وكذلك أن يكون القول من خلاله” قل “.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved