القسم / المثل
( القسم )
( المثل )
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
ما هي مناسبة الابتداء بالحديث عن المثل المضروب قبل الحديث عن الإنسان؟
قلنا أن الحديث عن الخيل هنا جاء كمثال مضروب للإنسان ليقتدي به في حفظ النعمة وشكرها، فأثنى ومدح هنا بخلق حسن في الحيوان ليمهد للذم بخلق سيء في الإنسان، فلماذا ابتدأت الآيات بالحديث عن المثال المضروب ولم تبتدئ بالحديث عن الإنسان، لماذا لم يبتدئ الحديث بقوله جل وعلا: إن الإنسان لربه لكنود، ثم ذكر الخيل ؟
لماذا ابتدأ بالحديث عن الخيل ثم أتبعه بالحديث عن الإنسان؟
والذي يظهر من هذا مناسبتين:
الأول: الاهتمام بأمر الخيل وشأنها لأن الابتداء لا يكون إلا بأمر مهم.
الثاني: أنه لو ابتدأ الحديث عن الإنسان وكفره للنعم ربما هاجت في النفس مشاعر يدفع بها الإنسان مثل هذه الصفة عن نفسه، أما وقد سبق الحديث عن الخيل وأحوالها بعرض تفصيلي دقيق، فإن الذهن هنا سينصرف حتما إلى المقارنة بهذه الصورة، وبالتالي لا يجد الإنسان بدا بعد هذا من أن يشهد على نفسه بذلك كما سيأتي في المقطع الثاني.
من هي المقصودة بالعاديات؟ وما هي قرائن التي تدعم هذا الاختيار؟
قيل في العاديات قولين:
الأول: أنها خيل الجهاد
الثاني: أنها إبل الحج.
فأما من اختار القول الأول فاستدل بأدلة:
الأول: أن الضبح لا يكون إلا في الفرس والكلب والثعلب، وأما الإبل فلا تضبح، وأجيب عنها بجوابين: الأول أن الضبح استعير لها، والثاني أنه مبدل من الضبع وهو شدة العدو، وهذا التأول قد يكون له وجه، إلا أن فيه بعدا.
الثاني: أن الإيراء وهو قدح النار لا يكون إلا بحوافر الأفراس، وأما الإبل فلا توري، وأجيب عن هذا: بأن الإيراء يكون بالحصى المتطاير من خفافها، وهذا تأول بعيد.
الثالث: أن الإفاضة من عرفات ثم مزدلفة لا تحتمل العدو وليس هو فيها بمحمود لأنه كان صلى الله عليه وسلم ينادي ( السكينة السكينة ) فلو وجد لما كان مناط مدح، وهذه النقطة في غاية الوجاهة.
وأما من قال بأنها الأسلحة الحالية فخطأ حتما وليس له وزن.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر الضبح هنا ؟
الضبح هو صوت نفس الفرس وهي تعدو، وذكر هذه اللفظة هنا لإظهار شدة عدوها، فلو قيل والعاديات: فقط دون الضبح لما أفاد معنى الشدة في العدو، وهذا فيه استكمال لمدخ الخيل فهي لا تعدو فحسب بل تعدو عدوا سريعا يشتد معه نفسها.
ما مناسبة ذكر الإيراء هنا؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر القدح صريحا هنا؟
الإيراء هنا مذكور لاستحضار صورة النار التي تنقدح من سنابكها، وأما ذكر القدح فلإظهار قوة ضربها بأرجلها على الأرض، لأن ذكر الإيراء قد يخطر على بال القارئ سؤالا عن كيفية هذا الإيراء، فجاء ذكر القدح ليبين أنه كان بسبب قوة ضربها على الأرض، ضربا ينقدح منه الشرر.
ما مناسبة ذكر الإغارة هنا؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر وقتها ( صبحا ) هنا؟
أما ذكر الإغارة هنا، فجاء لبيان سبيل عدو هذه العاديات الموريات، وأنه لم يكن في لهو ولا لعب ولكنه كان لمباغتة العدو، وهو أمر جلل، ومظنة الهلاك ومع ذلك فقد كانت تقدم عليه مسرعة.
وأما ذكر الصبح هنا، ففيه إشارة إلى أمور:
منها: الإشارة إلى الوقت الذي كان يغير فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، وترجم عليه ( باب ما يحقن من الدماء بالأذان ).
منها: الإشارة إلى قضية التبكير قبل أن يقوم الناس وينتبهوا، فصاحب القضية مسكون بقضيته تشغل باله كل الليل وهو ينتظر مجيء الفجر ليعدو فيها.
ومنها: الإشارة إلى قضية المباغتة والمفاجئة في الحدث والفعل حيث يمكن أن يتضاعف أثر الهجوم مرات ومرات إذا كان مباغتا.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها التحول إلى الجملة الفعلية بعد الجملة الإسمية ؟
المتأمل في السورة يرى أن الآيات الثلاث الأولى جاءت بجمل اسمية، وأن الاثنتين اللتين بعدها جاءت جاءت بجمل فعلية، ومعلوم أن الجمل الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار وأن الفعلية تدل على التجدد والحركة، والذي يظهر والله أعلم أن الثلاثة الأولى جاءت لتحكي أوصافا ثابتة مرتبطة بالخيل، كما أن مشهد الخيل وهي تجري مشهد متكرر ثابت، بخلاف حركتها وهي تغير فالإغارة يقتضي منها تغيرا في الاتجاه، وجيئة وذهابا، والجملة الفعلية أنسب في الحديث عن مثل هذه الحالة.
ما هي مناسبة ذكر إثارة النقع بعدها ؟
النقع هو غبار المعركة، وذكر النقع هنا فيه إشارة إلى أثر هذه العاديات الذي تتركه بعدوها وإيرائها وإغارتها على أعداء الله صبحا.
ما هي مناسبة ذكر توسط الجمع بعدها ؟
ذكر توسط الجمع بعد ذلك لبيان إقدامها، فهي لا تكتفي بأطراف المعركة ولكنها تقدم وتخوض في النقع الذي أثارته حتى وصلت إلى وسط الجمع، وهذا ثناء بعد ثناء.
لماذا أغفلت الآيات عاقبة وختام هذه الخيل العادية؟
نلاحظ في هذه السورة أن الحكاية اقتصرت على ذكر المسارعة والإقبال دون أي ذكر للنتيجة، لأن النتيجة غير مهمة، وليست مما يحاسب عليه الإنسان – إذا استوفى جهده -، ولأن المطلوب هو البذل والمسارعة فيه فحسب دون التفات لما ستكون عاقبة هذا البذل، فإن من عدت به خيله وتوسط الجمع فقد أدى ما عليه، ولا يهمه ما يجري بعد ذلك.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved