التهديد بالمعاد والحساب في سورة الغاشية
التهديد بالمعاد والحساب في سورة الغاشية
ما هي الأسماء الواردة فيها؟
سميت بسورة ( هل أتاك حديث الغاشية ) وسورة ( هل أتاك ) من باب الاختصار وسورة ( الغاشية ) وكلها في منحى واحد
عدد آياتها؟
ست وعشرون آية بلا خلاف
متى كان نزولها؟
نزلت في مكة.
ما هو مقصد السورة؟ وما هي القرائن التي دلت على ذلك؟
هذه السورة تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة السور الأربع، والذي يظهر أن مقصدها هو المعنى الموجود في آخر آية منها وهو ( التهديد بالمعاد والحساب )، وهذا ظاهر في قوله تعالى ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) فذكر هنا أمرين:
الأول: المعاد
الثاني: الحساب.
مناسبة السورة لسورة الأعلى الواردة قبلها وما قبلها من السور؟
قلنا أن البروج تشرح حالة استعلاء الكافرين على المؤمنين، ثم يتغير الوضع قليلا ليرتد أذاهم إلى الكيد الخفي، ثم تأتي سورة الأعلى لتؤكد على حفظ النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ الدعوة، واستمرارها وبلوغها الآفاق، ثم تأتي هذه السورة لتكمل المشهد في تهديد هؤلاء الكافرين بالمعاد والحساب، فكل راجع إلى أحد محتاج إليه، وكل من يستطيع أن يحاسب أحدا فهو عليه مسيطر.
ومن التناسب بين السورتين وجود كلمة فذكر في كليهما أتبعت في الأولى بقوله: إن نفعت الذكرى وفي الأخرى بقوله: إنما أنت مذكر وفيهما من التكامل والتناسب ما يغني عنه الكلام
ما هي مناسبة المقطع للمطلع؟
السورة كلها في موضوع واحد وهو اليوم الآخر فجاء المطلع مبتدءا بالتشويق للإخبار عن أحواله وانتهى الكلام بوعيد وتهديد وتأكيد لهذه القضية وهي قضية رجوع الخلق لله ثم حسابهم على ما مضى
الكلام عن عموم السورة؟
ابتدأت هذه السورة بذكر هول عقوبة أقوام شاهت وجوههم يوم القيامة ثم أتبعته بذكر الحال المضاد لذلك جريا على عادة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب.
ولما كان إعراضهم ناجما عن قلة تفكر وتبصر رغم توافر الدلالات أومأت بعده إلى الإنكار على القوم الذين بدئ ذكرهم بأن لم يهتدوا بهذه الآيات البينات وذكرت جانبا من هذه المظاهر التي لو تفكروا بها لاهتدوا.
ثم عقبت بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وبيان اقتصار مهمته على التذكير فقط وأن المعاد والحساب إنما هو إلى الله تعالى فإليه معادهم وعليه حسابهم وفي هذا من التهديد والتخويف ما فيه.
المقطع الأول: ذكر أحوال المعاد
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
ما هو موضوع هذا المقطع وما هي مناسبته للمقصد؟
هذا المقطع يعتبر بمثابة التمهيد والتوطئة لما سيتم ذكره آخرا من المعاد والحساب، فإن ذكر أحوال الناس فيما يتعلق بالحساب والمعاد فيه، والخوض في تفاصيله يجهز النفس لما سيلقى لاحقا، ويهيؤها للتهديد الذي ستختم به السورة خاصة م هذه الصور المهيبة التي
ما دلالة البدء بالاستفهام؟
الابتداء بالاستفهام للتشويق وشد الانتباه لا لمجرد الاستفهام ولذلك لا ينتظر المتكلم بهذا الاستفهام جوابا عنه من المسئول بل يعقب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه.
وهذا نستعمله كثيرا في حياتنا اليومية فمثلاً: لو أردت أن تحدث شخصا غير مهتم بحديث ما وأردت أن تحرك انتباهه، تبدأ حديثك بالسؤال: هل عرفت ماذا جرى في المسألة الفلانية؟ فتكون في هذه الحالة شوقته لمعرفة ما ستقول لأن النفس تتشوف إلى المعرفة ما تجهل.
وبداءة الخبر بالاستفهام منتشر كثيرا في القرآن بمختلف أدوات الاستفهام تارة بالهمزة (ألم تر كيف فعل ربك ) وتارة بهل (هل أتاك حديث موسى) ( هل أتاك نبأ الخصم ) وغير ذلك مواضع كثيرة.
ما هداية ما سبق في حياة الداعية؟
وفي هذا توجيه للداعية بالاعتناء بالأساليب التي يشد بها انتباه الناس قبل البدء بحديثه ليكون أقوى وأكثر تأثيرا في نفوسهم فلا يبدأ بإلقاء حديثه مباشرة بل يبدؤه بما يشد الناس والنفوس والبداية المؤثرة لها انعكاس عال على اهتمام الناس في بقية الوقت.
ما وجه استخدام هل كأداة استفهام بدلا من الهمزة؟
هناك عدة فروق بين هل والهمزة في الاستخدام أهمها: أن الهمزة تستخدم إذا خطر في نفس السائل إثبات ما يستفهم عنه فهي تكون لما يتوقع فيه الإثبات، أما هل فإنها تستخدم عندما لا يترجح لدى السائل نفي ولا إثبات بل ربما كان النفي في استخدامها أقرب منه إلى الإثبات وكثيرا ما يكون جوابها بالنفي لكن ليس على سبيل الإطلاق
كما أن هل أقوى وآكد من الهمزة في الاستفهام
فاستخدامها في السؤال يوحي للمسؤول أن السائل خالي الذهن تماما عن الجواب لا يخطر في باله شيء مع غلبة ظن بأن يكون الجواب بالنفي.
ما وجه اختيار الفعل أتى بدلا من جاء؟
جاء تستخدم في القرآن عادة للمواضع التي فيها زيادة معنى وشدة وقوة بخلاف أتى التي تستخدم للأشياء اليسيرة أو في المواضع التي يكون فيها المعنى أقل حضورا
والآتي هنا هو حديث الغاشية والحديث عادة يكون سهلا يسيرا والحديث هو ما يكرره الناس ويجددون ذكره.
وربما يكون فيه إشارة إلى استسهال الناس لهذا الحديث وعدم عبئهم به في مقابل التهويل الذي سنراه لاحقا في السورة والذي يظهر من استخدام لفظ الغاشية دون أن يذكر معها ما الذي ستغشاه لزيادة الإبهام المفضي إلى زيادة التشويق والتهويل.
ما مناسبة استخدام كلمة الغاشية في هذه السورة؟
الغاشية من الغشيان وهو التغطية المتمكنة والغاشية هي الداهية التي تغشى الناس ومناسبة هذا اللفظ لموضوع السورة من وجوه:
الأول: أن هذه الحادثة تغشى الأشياء جميعها من كل جهاتها يوم تأتي فلا تترك شيئا وهذا المعنى مستفاد من حذف متعلق الغاشية
الثاني: أنها تغشى عقول الناس فتغطيها فكأنما هم سكارى
والفرق بين الغشاء والغطاء أن الغشاء يشف غالبا عما وراءه بعكس الغطاء وهذا مناسب لذكر الوجوه بعدها فكأنما هذه الغاشية غطت الوجوه تغطية رقيقة استطاع معها الناظر أن يرى حال الوجوه من ورائها إذ تمكنت منها.
وذكرت كلمة الغاشية مرتان في القرآن: مرة هنا والثانية في قوله ( أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ) في سورة يوسف
وقيل في معناها: أنها النار ويرده السياق خاصة قوله: يومئذ فعلم أن المقصود بها إنما هو يوم القيامة وكذلك التصريح بقوله ( تصلى نارا حامية ) فعلم أن الغاشية شيء آخر غير النار.
ما وجه استخدام الوجوه هنا ؟
استخدم الوجوه للتعبير عن حال أهل النار وحال أهل الجنة لأن الوجوه هي أول ما يظهر حال الإنسان من شقاوة ونعيم كما يقال: خرج بغير الوجه الذي جاء به.
ومهما حال الإنسان أن يخفي حاله فلا بد أن يظهر ذلك في وجهه وحتى لو تبسم الحزين مثلا لا بد أن يظهر الحزن على ابتسامته
فاستعار الوجوه هنا للتعبير عن حالهم من خلال ما يظهر عليها.
ما وجه تقديم كلمة يومئذ؟
أصل الكلام أن يقال: وجوه خاشعة يومئذ، وقدمت لفظة يومئذ للاهتمام بهذا اليوم فمدار السورة كلها عليه وعلى وصف أحوال الناس فيه.
ما وجه البداءة بالكفار؟
السورة مساقة أصلا للتهديد خاصة بعد الكلام عن إيثار الحياة الدنيا فناسب هذا البدء بوصف حال الكفار
هل الأوصاف الواردة في الوجوه يوم القيامة أم هي في الدنيا؟
في الحقيقة أن كل الأوصاف الواردة في الوجوه هي في وصف حالها يوم القيامة حتى قوله عاملة ناصبة وهناك عدة أدلة على ذلك:
الأول: كون أوصاف الوجوه التي تدخل الجنة كلها في الآخرة ( ناضرة، إلى ربها ناظرة) وحتى في خارج هذه السورة فكل أوصاف الوجوه المذكورة إنما تكون في الآخرة وتوجيه اللفظ إلى غير المعتاد في الاستعمال القرآني بحاجة إلى دليل قوي
الثاني: لفظة يومئذ فهذا دليل على أن هذه الأوصاف إنما هو خاص بحالهم في الآخرة في ذلك اليوم
الثالث: أنه لو كان هذا الوصف في الدنيا لشمل بعض الكفار لا كلهم لأن ليس كل الكفار ينصبون في طاعة غير الله
الرابع: حمل الكلام على حالهم في الدنيا يوحي بأن مناط التعذيب إنما هو عملهم في غير طاعة الله وهذا معنى قاصر فإن مناط تعذيبهم هو ترك العمل لله وحده وكذلك الحال في المبتدعة فإنهم لا يعذبون فيما ابتدعوا من فروع العبادات ولكن لا يؤجرون عليها
وفي ما سبق يتضح لنا ضرورة تفسير القرآن بالقرآن ورد بعض وجوه التفسير بما يقتضيه السياق والاستعمال القرآني للألفاظ.
وقد ذكر تعب أهل النار ونصبهم في عدة مواضع ( سأرهقه صعودا ) وقوله ( ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا )
ما وجه الإتيان بالخشوع خاصة دون الذلة؟
الخشوع تطامن مع خوف ففيه زيادة عن الذلة بينما الذلة تدل على الانقياد مثل قولهم بعير مذلل: أي سهل الانقياد كما أنه خاص بالصوت والبصر فناسب الإتيان بالخشوع لما ذكر بعدها من الوجوه وأحوالها والوجوه هي محل البصر والصوت.
ما المقصود بعاملة ناصبة ؟
النصب هو التعب فذكر العمل هنا مع النصب فيه زيادة عذاب لهذه الوجوه التي تصلى النار كما سيأتي فهو فوق حرارتها يعانون من التعب والعمل يصعدون ويروحون ويأتون كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة
ما مناسبة إيراد هذه الأوصاف الثلاثة خاصة دون غيرها؟
وأوثر وصف خاشعة وعاملة وناصبة تعريضا بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصب في القيام بطاعته، فجزاؤهم خشوع مذلة، وعمل مشقة، ونصب إرهاق.
فعاقبهم الله على ترك أوامره بجنس ما تركوه في الدنيا وجاء مثل هذا كثيرا في القرآن والسنة أن يعاقب العاصي بجنس معصيته كما في حديث قاتل نفسه وهذا منتهى العدل منه جل وعلا.
ما دلالة ذكر الحامية بعد النار مع أن كل نار حامية؟
ذكر صفة لازمة للشيء بعده دلالة على أن هذه الصفة خارج ما يعهده الناس فكأنه يقول: إن هذه النار التي يصلاها هؤلاء ليست كناركم بل هي نار شديدة الحرارة وهذا ما ورد صريحا في الحديث.
ما مناسبة ترتيب هذه الأوصاف ابتداء بوصف الوجوه وانتهاء بالشراب والطعام؟
وصفت الآيات بداية صفة ذاتية واقعة على الوجوه ثم ثنت بصفة حالهم من التعب والنصب ثم ثنت بذكر صفات المكان الذي يعملون فيه فهم لا يعملون في جو مريح لكنه جو متعب مليء بالحرارة والسخونة.
ثم رتبت الأشياء بعد النار حسب ترتيب الحاجة لها فبعد التعب في هذا الجو الحار يحتاج الإنسان إلى شراب ليخفف عنه فيسقون بما وصف ثم يحتاج بعدها إلى الطعام فيطعمون بما وصف من الضريع وهو شجر ذو شوك وطبيعي أن يقدم الشراب على الطعام لأن حاجة المتعب في الجو الحار إلى الماء أشد فربما يصبر على الطعام لكنه لن يصبر على الماء
ما دلالة ذكر السقي دون الشرب؟
ذكر السقي هنا للدلالة على أنهم وإن لم يرغبوا بالشرب من تلقاء أنفسهم فسيأتي من يسقيهم إمعانا في تعذيبهم فليس الشرب هنا شربا للتكريم كما هو حال أهل الجنة بل شربا للتعذيب والتبكيت
كما قرئ أيضا ( تصلى ) بضم التاء قرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وهذا مناسب أيضا لذكر السقي بهذه الصيغة.
ما دلالة الإتيان بالفعل بصيغة المبني لما لم يسم فاعله؟
لم يذكر الساقي هنا وهم الملائكة لسببين:
الأول: دليل على هون سقايتهم فسقايتهم أمر هين أعرض عن ذكر فاعله
الثاني: أن في ذكر الملائكة هنا تشريفا لهم فترك ذكرهم لما فيه من ذكر الذل والمهانة
ما دلالة ذكر آنية في وصف العين؟
الآنية من الأوان وهو الوقت والحين والمعنى أنها غلت وغلت وأعدت حتى بلغت الوقت الأمثل لحرها وغليانها ثم عند ذلك يسقون منها
وذكرت كلمة آنية لئلا ينصرف الذهن إلى أن العين هنا للتنعم لأن الأصل في عيون الماء أنها مرتبطة بالنعيم فذكر معها شدة الحرارة احترازا من ذلك وهذا ما يسمى الاحتراز في الكلام.
وبهذا السقي والعياذ بالله يجتمع على الكفار حران: حر خارجي من النار الحامية وحر داخلي من العين الآنية وفي هذا غاية التعذيب لهم.
ما دلالة ذكر الطعام بصيغة الحصر؟
ذكر الطعام هنا كنوع من أنواع العذاب كما في الشراب والطعام بهذه الصورة طعام واحد وكأن في ذلك ضد التلذذ بالطعام فإن التلذذ به يكون في تنويعه وعادة يكون الطعام منوع والإجبار على نوع واحد من الطعام مهما كان طيبا فيه نوع من العذاب إذ أن النفس لا بد أن تمل هذا النوع مهما كانت تحبه.
وفوق هذا كله ذكر خاصية في هذا الطعام وهي أنه لا يسمن ولا حتى يغني من الجوع فكأنه لا طعام إذ أن الآكل إما أن يبتغي بهذا تنعما وزيادة سمنة أو أن يطلب أدنى من ذلك وهو أن يبقى على قيد الحياة فلما نفى عنه هاتان الخاصتان بقي الطعام بلا فائدة.
وثنى بنفي الإغناء من الجوع بعد السمن لئلا يتوهم القارئ أنه قد يغني عن الجوع بعد نفي التسبب بالسمن فنفى الأدنى بعد الأعلى وذكر الصفتان زيادة في التبشيع.
ما وجه عدم ذكر أداة العطف – الواو-عند ذكر حال الوجوه الناعمة كما في سورة عبس؟
قد يتبادر في بادئ الرأي أن حق هذه الجملة أن تعطف على جملة وجوه يومئذ خاشعة بالواو لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية كما عطفت جملة: (ووجوه يومئذ عليها غبرة) على جملة: ( وجوه يومئذ مسفرة ) في سورة عبس
والجواب: أن المقصود من الاستفهام في: ( هل أتاك حديث الغاشية ) إنما هو الإعلام بحال المعرضين بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فهذا هو المقصد الرئيسي للسورة.
فبعد أن وصف حالهم، جاءت الجملة بعدها مفصولة لأنها جعلت استئنافا بيانيا لسؤال قد يخطر: هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول؟ أي ما هو أنس ونعيم لقوم آخرين.
فجاء الترتيب بهذا الشكل مفصولا لأن الجملة الثانية وهي وصف حال أهل النعيم إنما جاءت للاستطراد والتتميم وإظهار الفرق بين الحالين وإتباع الترهيب بالترغيب، فكون الجملة تحمل معنى الاستئناف والاعتراض أوجب فصلها عما قبلها.
فأما الجملتان اللتان في سورة عبس فلم يتقدمهما إبهام لأنهما متصلتان معا بالظرف وهو: ( فإذا جاءت الصاخة ).
فيكون المقصود من هذا الفصل البياني بيان البعد الشاسع بين حالي الفريقين وأن الغاشية تغشى ناسا بمنتهى العذاب وتغشى ناسا بمنتهى النعيم
ما دلالة كلمة ناعمة؟
كلمة ناعمة تحتمل دلالتين :
الأولى: أن يكون مشتقا من نعم بضم العين ينعم بضمها الذي مصدره نعومة وهي اللين وبهجة المرأى وحسن المنظر.
الثانية: أن يكون مشتقا من نعم بكسر العين ينعم مثل حذر، إذا كان ذا نعمة، أي حسن العيش والترف.
والأمر الأول نتيجة طبيعية للثاني ولا تجتمع مثل هاتين الدلالين إلا في كلمة (ناعمة) فسبحان من أتى بهذه اللفظة التي تجمع هذين المعنيين للدلالة على سبب ونتيجة في كلمة واحدة.
ما هي دلالة اختيار لفظة السعي دون غيرها؟
السعي يأتي في اللغة ليشير إلى عدة معان:
الأول: القصد إلى الشيء ومنه قوله تعالى في سورة الجمعة ( فاسعوا إلى ذكر الله )
الثاني: الكسب كقولنا: سعى عليهم وسعى لهم
الثالث: العدو وهو دون الشد وفوق المشي وفيه اضطراب ومنه النهي عن السعي للمساجد
وهذا الفعل يستعمل غالبا في الأفعال المحمودة.
والسياق لا يمنع جمع كل هذه المعاني في هذه اللفظة فهم راضون باعتبار الجهة التي اتجهوا إليها وعم راضون باعتبار ما كسبوه في أنفسهم وهم راضون لاجتهادهم في هذا الشأن الذي كانوا فيه
ما هي دلالة تقديم السعي على الرضا؟
الأصل أن يقال (راضية لسعيها) فقدم الجار والمجرور لأنه سبب الرضا ومحركه وليكون السعي هو الذي ينبغي أن يكون اعتناء الإنسان به لأنه إنما يؤدي في آخره إلى الرضا الموصوف
فالسعي متقدم عليه زمنا وهو سبب له فناسب التقديم
ما دلالة تنكير كلمة جنة؟
التنكير بشكل عام يأتي في اللغة لعدة أغراض وهنا جاءت منكرة للتعظيم فكأنه يقول في جنة لا يمكن الإحاطة بوصفها
ما دلالة وصفها بالعلو؟
الأماكن العالية فيها عدة محاسن: نقاء الهواء وطيب الجو وحسن المنظر
ما دلالة الإتيان بوصف الكلمة لاغية بالمفرد؟
هذه الصيغة تعني أنهم لا يسمعون فيها ولا حتى كلمة واحدة من اللغو فتأتي بهذه الصيغة لنفي أي سماع للغو
ما وجه عدم عطف الصفة الثانية للجنة وهي ( لا تسمع فيها لاغية ) على الصفة الأولى ( عالية ) بحرف عطف؟
نلاحظ أن الصفة الأولى جاءت بصيغة جملة اسمية والثانية بجملة فعلية فلعدم التناسب بينهما لم يعطف بحرف عطف وهذا الاختلاف من محسنات الفصل
ومثل هذا يقال في الصفات التالية ( فيها عين جارية .. ) إلى آخر الصفات فإن هذه الصفات يقصد منها إثبات بعض المحاسن بينما يقصد من هذه الصفة نفي بعض النقائص فلم يناسب أن يعطف بينهما بحرف عطف
ومثل هذا يقال في الفصل بين السرر والعين فلم يجمع بينهما بحرف عطف لأن عطف ( سرر ) على ( عين ) يبدو نابيا عن الذوق العام لعدم الجامع بينهما في الذهن، فالصفة الوحيدة الجامعة بينهما هي وجودهما في الجنة لذلك كرر كلمة ( فيها ) للفت النظر إلى أن الجامع بينهما هو وجودهما في الجنة فقط، بينما عطف الأكواب والنمارق والزرابي على السرر بحرف العطف للتناسب بينها كونها كلها من متاع السكن الفاخر.
وقد جاء مثل هذا المعنى في قوله تعالى ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاماً سلاماً )
ما هي دلالة ذكر كلمة فيها؟
ذكر هذه الكلمة هنا يدل على أن عدم سماع اللغو إنما هو خاص بالجنة وأن الدنيا هي دار لمثل هذه المنغصات
ما هي هدايات مثل هذا؟
إذا علم الإنسان هذا وأنه مهما احتاط لا بد وأن يسمع شيئا من هذا وطن نفسه على الصبر ولا بد مهما سمع فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم سمع كلاما فصبر بل حتى ربنا سمع كلاما في ذاته العلية وما أخذهم وأمهلهم فكيف ببعضنا لا يستطيع الإنسان أن يتحمل كلمة من أخيه.
ما دلالة الإتيان بكلمة جارية بعد العين؟
مر أن العين تدل في ذاتها على الجريان ويقال هنا ما قيل في النار فالجريان هنا مذكور بعينه للدلالة على أن الجريان هنا جريان غير الجريان المألوف في الدنيا.
ما دلالة ذكر الرفع مع السرر؟
ذكر الرفع هنا دليل على ترفعها عن الأرض وابتعادها عما يمكن أن ينالها من الأرض من أذى كما أن الارتفاع دليل على علو الشخص ومكانته وكلما كانت السرر أعلى كانت مكانة المتكئ عليها أعلى
ما دلالة كلمة موضوعة في وصف الأكواب؟
الكوب هو الآنية التي لا عروة لها ولها ساق يشرب فيها الخمر وذكر الوضع معها للتنيبه على تهيئتها لهم وعلى وجود من يخدمهم ويهيئ لهم شرابهم وطعامهم وآنيتهم فعبر عن كل هذا المعنى وهذا الجو المليء بالخيرات بلفظة واحدة
ومثل هذا يقال في كلمة مصفوفة في وصف النمارق – والنمارق جمع نمرقة بضم النون وسكون الميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادات التي تتخذ للاتكاء – فهناك من يهيئ لهم فرشهم ويرتبها لهم فالصف يدل على نظام وبهجة في المكان كونه مرتبا ويدل على انتشارها أيضا فحيثما أراد الإنسان أن يجلس ويتكئ وجد النمارق بين يديه
ما دلالة وصف الزرابي بالمبثوثة؟
الزرابي جمع زربية بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الباء وياء مشددة وهي ما يفرش في الأرض من بسط وحصير وسجاد مصنوع من صوف ملون وهي من سمات أهل الترف والنعم فوصفها الله بالمبثوثة إشارة إلى أنهم لا يتكلفون عناء حمل متاعهم حين تنقلهم بل يجدون متاعا جاهزا في أي مكان أحبوا الجلوس فيه
ما وجه الترتيب بين هذه الصفات؟
ذكر أهل الجنة بصفات مقابلة لصفات أهل النار:
فقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات: ( خاشعة، عاملة، ناصبة ) بصفات: ( ناعمة لسعيها راضية )
وقوبل قوله: تصلى نارا حامية بقوله: في جنة عالية
وقوبل: تسقى من عين آنية بقوله: فيها عين جارية
وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله: ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، بمقاعد أهل الجنة المشعرة بترف العيش من شراب ومتاع.
وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإجمال في قوله تعالى: ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) ، ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فيكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يزادون من النعيم «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
وقد وصف الجنة بثلاثة محاسن:
الأول: حسن المكان بقوله في جنة عالية
الثاني: حسن أهلها بقوله لا تسمع فيها لاغية
الثالث حسن ما فيها بوصف الموجودات
وقد ذكر الله لنعيمهم أصنافا: فذكر نعيم العين ونعيم الأذن ونعيم الجسد بما وجد فيها من أصناف الفرش والخدمة فغشيهم النعيم من كل الجوانب كما غشي الفريق الأول من كل الجوانب
لم لم يذكر الله الصفات متقابلة تقابلا تاما؟
عدم التقابل التام في ذكر العذاب والنعيم فيه جمال وتنويع لا يأتي لو كان الكلام متقابلا تقابلا تاما فيصبح الكلام مع التقابل التام شبه مكرر فأتى بالتقابل قريبا دون تماثل لتختلف الصورة ويختلف الشعور ويحمل الكلام معان جديدة مع بقاء شيء من التقابل في العموم، هذا ما ظهر لي والله أعلم.
ولازال ذكر هذه الصفات فيه من الأسئلة التي تحمل دلالات وإعجازا ما لم يفتح الله به إلى الآن نسأل الله بمنه وكرمه أن يعلم وأنا يحرمنا بذنوبنا
المقطع الرابع: الأمر بالنظر والتفكر
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
ما دلالة البدء بهذا التعبير: أفلا؟
الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للتفريع أي أن الكلام بعدها فرع عن الأصل وهو الكلام الذي قبلها.
والمعنى: كيف يعرضون هذا الإعراض عن هذه الأهوال التي ستصيبهم في ذلك اليوم وينكرون بعث الإنسان من جديد وهم يرون كيف خلق الله هذه المخلوقات العظيمة من العدم فهل يعجز عن إعادة خلق الإنسان من جديد وهو أقل منها بكثير؟
وبين الأصل وهو وصف أحوال الشقاء يوم الغاشية وبين الإنكار جاءت الجملة الاعتراضية وهي وصف أحوال أهل النعيم.
البدء بالهمزة مع لا تشكلان أداة تنبيه وهي تذكر عادة إذا كان الكلام المسوق بعدها مهما جدا وغالبا ما تنساه العقول أو تتعداه فأيا كانت هذه الأشياء يستقيم معها التنبيه خاصة أنها مهمة والناس لا يعيرونها الاهتمام الكافي
ووجود الفاء معها تعني أن ما بعده مرتب على ما قبله أي أنهم لو فعلوا المطلوب وهو النظر لوصلوا إلى الحق
ما هي مناسبة الجمع بين هذه الأشياء الأربعة؟
الجامع بين هذه الأشياء الأربعة هي: عدم غيابها عن نظرهم والتصاقهم بها وكثرة معالجتهم لها
فكان حضورها الدائم أمامهم أدعى ليتفكروا فيها بالنظر إليها
ما مناسبة ذكر الصفات مع كل واحد من هذه المخلوقات؟
الإبل قريبة من الناس يستطيعون النظر إلى خلقها وهم يتعاملون معها سائر اليوم بينما السماء مثلا لا يستطيعون معها مثل هذا لبعدها عنهم وكذلك الجبال والأرض خلق عظيم لا يستطيعون الإحاطة به فناسب معرفة الخلق مع الإبل
بينما ذكر مع السماء الرفع وهذا أمر مشاهد واضح وكذلك النصب مع الجبال والسطح مع الأرض فخص كل مخلوق بما يناسب التأمل فيه
المقطع الخامس: الخامس تسلية وتهديد
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
ما مناسبة الأمر بالتذكير بعد الحديث عن هذه المخلوقات الأربع؟
بعد أن ذكر الله جل وعلا هذه الآيات وبين أن ضلالهم إنما هو ناجم عن عدم النظر جاء بما يخفف عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبته وأن مهمته هي التذكير لا غير فإن مرد هؤلاء المعرضين المكذبين إنما هو إلى الله وحده.
وربما أشارت هذه الأشياء الأربعة إلى الصفات التي يتجب أن يتحلى بها المذكر:
فيأخذ من الإبل صبرها وشدتها وتحملها وعموم نفعها
ويأخذ من السماء رفعتها وعلوها
ومن الجبال ثباتها وانتصابها
ومن الأرض سهولتها وانبساطها
ما هداية تذكير الله للنبي صلى الله عليه وسلم بأن مهمته هي التذكير فحسب؟
المعنى الرئيس المراد من هذا السياق هو تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتهدئة نفسه وتسليته وتثبيته إذ لم يستجب له المشركون وناسب ذكر هذا كله مع ما سبق من التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم.
وهذا التوجيه من أعظم التوجيهات في القرآن وهو عدة الداعية في مسيره فالداعية يجب أن يستحضر في ذهنه دوما أن مهمته هي التبليغ والتبليغ فقط والاستمرار عليه أبدا
فبمجرد إيصاله لأوامر الله للمدعوين يعتبر قد أدى ما عليه ونجح في مهمته سواء استجاب له الناس أو لم يستجيبوا وهذه الفكرة تريح الداعية كثيرا وتوفر عليه وتثبته في طريقه.
تجد كثيرا من الدعاة مثلا يدعو ويدعو وقد لا يستجيب له الناس فيحزن ويتأسف وربما توقف عن الدعوة وربما صار يلاحق الناس وربما انقلب عليهم تأنيبا وتوبيخا وهذا كله بسبب عدم استحضار هذا التوجيه الرباني في قلوب الدعاة
فعلى الداعية أن يمضي في طريقه منشرح الصدر متوكلا على الله لا يزيده المتبعون ولا ينقصه المعرضون إلا إصرارا على التبليغ فحسب وليعلم أن مرجع هؤلاء المعرضون إنما هو إلى الله وأنه هو الخالق الذي سيتكفل بحسابهم والله الموفق.
ما دلالة تحويل الكلام إلى صيغة المفرد عند ذكر العذاب؟
ذكر العذاب بصيغة المفرد أعظم في التخويف إذ أن التهديد الجماعي أقل وقعا في النفوس إذ أنه يجعل الفرد يشعر بأنه ليس وحده في المصيبة فيهون عليه العذاب بعكس ما إذا كان التهديد موجها له بعينه
وقد أشار الله إلى مثل هذا في قوله (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون)
ما دلالة وجود مثل هذا الاعتراض؟
لما أمر الله نبيه بالتذكير وطمأنه بأن مهمته هي الاقتصار على التذكير فحسب فلربما أورث هذا عندهم شبهة أمنهم من المؤاخذة نتيجة إعراضهم
فجاء بهذا الاستثناء لكي تكتمل أجزاء الصورة: فالناس إما مستجيب للمذكر أو معذب مؤاخذ يوم القيامة بما صنع.
وفي هذا مناسبة لما ورد سابقا من الجمع بين الترغيب والترهيب
والاستثناء هنا للاستدراك ويكون معنى الكلام: لكن من تولى وكفر يعذبه الله العذاب الشديد
ما دلالة تكرير كلمة العذاب مرتين؟
في هذا زيادة معنى للتهديد فتكرير الكلمة مرتين يجعلها أقوى أثرا وأعظم وقعا وحضورا في ذهن المخاطب
ما دلالة تقديم الجار والمجرور؟
تغيير بنية الجملة وتقديم ما حقه التأخير دليل على الاهتمام والتركيز على الكلمات المقدمة ويدل على القصر أيضا فأصل الكلام أن يقول ( إن إيابهم إلينا وإن حسابهم علينا ) لكن قدم الجار والمجرور ليكون التركيز على قضية من إليه المعاد وحصرها فيه عز وجل لا في غيره.
ما دلالة استعمال ضمير الجمع في الحديث عن الرجعى والحساب؟
استعمال ضمير الجمع هنا للتعظيم والتفخيم فلم يقل إلي إيابهم بل قال إلينا
ما دلالة تقديم خبر إن على اسمها؟
التقديم هنا لعدة أغراض منها:
الاهتمام والإبراز فإن مكان الرجوع هو أهم مقصد من مقاصد هذا الكلام هنا
ومنها الحصر والتشديد فكأن معنى الكلام ليس مرجعهم إلا إلينا وليس حسابهم إلا علينا
وهذه العبارة تضمنت ما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب وهذا ما يتناسب مع ما سبق في بداية السورة من الجمع بينهما.
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved