( الامتنان بالرسالة )

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

ما مناسبة هذا المقطع لهذه السورة؟

تحكي هذه الآيات امتنان الله عز وجل على هذه الأمة بأن اختارها واصطفاها بهذه الرسالة،فتبتدأ الآيات بذكر الضمير الدال على الذات الإلهية في إشارة إلى تولي الله جل وعلا نفسه هذا الإرسال وفي هذا غاية التشريف، وأي تشريف أرفع من أن يتولى الله بنفسه إصلاح شؤون هذه الأمة واصطفائها بهذه الرسالة.

تلك الرسالة التي أطلقها ابراهيم عليه السلام في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ.. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..

وتحققت هذه الدعوة- وفق قدر الله وتدبيره- بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم..

«رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» .. كما قال إبراهيم! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم: «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .

ويأتي قوله تعالى واصفا العرب بالأميين وقوله في في آخر الآية الأولى في المقطع ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ليجلي للعرب حالهم قبل أن تأتيهم الرسالة لترفع ذكرهم بين الأمم، ثم يذكر عليهم منة أخرى بكون هذا الرسول أرسل منهم لا من اليهود الذين كانوا ينتظرونه ويستفتحون به على العرب، فشرف الله العرب بأن اختاره ليكون من نسلهم.

روى البخاري عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبيء صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء؟

وسواء كان المقصود بقوله تعالى : ( وآخرين ) من سيأتي من الأجيال اللاحقة من مسلمي العرب أو كان المقصود الأمم الأخرى من غير العرب ممن سيدخل في هذا الدين ويحمل رايته كما روى البخاري من حديث سلمان الفارسي، أو كان المقصود كلا الجماعتين وهذا ما يترجح لدينا باعتبار التفسير الوارد في البخاري من باب التفسير بالمثال، فإن في الآيات تشير إلى أن هذه الأمة موصولة الحلقات ممتدة في شعاب الأرض وفي شعاب الزمان، تحمل هذه الأمانة الكبرى، وتقوم على دين الله الأخير.

وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم ستبلغ أمما ليسوا من العرب وهم فارس، والأرمن، والأكراد، والبربر، والسودان، والروم، والترك، والتتار، والمغول، والصين، والهنود، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن بإخباره بالغيبيات في وقت كان المسلمون فيه لازالوا ضعفاء لا يزيدون على المدينة وما حولها.

«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. القوي القادر على الاختيار. الحكيم العليم بمواضع الاختيار، وهذا التذييل مناسب للبشارة بالتقدير الإلهي لانتشار الدين.

ثم تنتهي الآيات بذكر الفضل صراحة : «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..

واختياره للمتقدمين والمتأخرين فضل وتكريم، ومن تأمل هذه الآيات وأنها خطاب مستمر لكل جيل ولكل عرق يحمل هذه الأمانة، منذ أن نزلت إقرأ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، خطاب لكل فرد ولكل جيل في كل ناحية من أنحاء الأرض نحو حمل هذه الأمانة، علم أهمية هذه الكلمات القليلة وعظيم خطرها، خاصة لو استشعر أنها خطاب له أولا.

ما مناسبة الجمعة للمنة؟

وللجمعة خصوصية مع المنة من عدة جوانب:

أولها: أن الأمم قبلنا ضلت عن ذلك اليوم وأن الله قد هدى أمة الإسلام إليه كما روى البخاري عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»

ومن جوانب المنة فيه: أن التبكير بالصلاة فيه يعدل أجورا كثيرة، لما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ»

ومن جوانب المنة فيه: أنه باب عظيم من أبواب المغفرة، كما في حديث سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى» متفق عليه.

ومن أعظم هذه الجوانب: ساعة الإجابة، ففيه ساعة من وافقها يسأل الله شيئا من خير الدنيا والآخره أجيب: كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا

2019 04 13 00h15 46

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved