فتنة المال في قصة صاحب الجنتين
(فتنة الدنيا)
( قصة صاحب الجنتين)
۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰب وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡل وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعا ﴿٣٢﴾ كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرا ﴿٣٣﴾ وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرا ﴿٣٤﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدا ﴿٣٥﴾ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَة وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرا مِّنۡهَا مُنقَلَبا ﴿٣٦﴾ قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطۡفَة ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلا ﴿٣٧﴾ لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدا ﴿٣٨﴾ وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدا ﴿٣٩﴾ فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدا زَلَقًا ﴿٤٠﴾ أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبا ﴿٤١﴾ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدا ﴿٤٢﴾ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ﴿٤٣﴾ هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابا وَخَيۡرٌ عُقۡبا ﴿٤٤﴾ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيما تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء مُّقۡتَدِرًا ﴿٤٥﴾ ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابا وَخَيۡرٌ أَمَلا ﴿٤٦﴾ وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَة وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدا ﴿٤٧﴾ وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدا ﴿٤٨﴾ وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدا ﴿٤٩﴾
ما هو موضوع هذا الفصل، وما مناسبته لمقصد السورة؟
هذه ثاني أربع قصص في هذه السورة المباركة، وقد قصت علينا فيها قصة رجلين: الأول صاحب الجنتين وكان ذا مال وبنين، والآخر صاحبه كان أقل منه مالا وولدا، فاغتر الأول بما عنده من المال، رغم نصيحة الصاحب له، حتى ذهب الله بماله فقعد حسيرا كسيرا نادما على ما فاته، ولم تغادر السورة القصة إلا وعقبت عليها ببيان من أحلى ما يكون كما سنرى.
ولا شك أن الإنسان فطر على حب الدنيا والتعلق بها، مما جعلها ضاغطا قويا على حس المؤمن ولربما صرفته عن الحق أو عن كمال الرشد وشغلته عن الاستعداد لدار المعاد.
ولما خصصت سورة الكهف لعلاج الفتن، وكانت فتنة الحياة الدنيا وما فيها من مال وبنين من أعظم هذه الفتن، عالجت السورة هذه القضية علاجا حاسما يقتلع جذورها ويجفف منابعها، ولا يكتفي بتشذيب ظواهرها.
على من يعود الضمير في قوله: لهم؟
ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضمير عائد على المتكبرين من قريش الذين طلبوا طرد الفقراء اعتزازا بما لديهم من القوة، اضرب لهم هذا المثل الذي يبين أن الأحوال قد تتبدل.
وقيل أن الخطاب هنا للعموم لأمة الدعوة كلها.
وهذا يعلمنا أن ضرب الأمثال من أنفع الوسائل التعليمية، فنذكر لهذا حالة مشابهة لحاله حتى يعتبر بالعاقبة والمآل.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها استخدام النا الدالة على الجماعة مع الأفعال في بداية القصة؟
المتأمل في حكاية هذه القصة يجد ضمير المتكلم الدال على الجماعة بارزا في بداية هذه القصة بوضوح، مثل قوله جل وعلا: جعلنا، وحففناهما، وجعلنا بينهم زرعا، ونا الدالة على الجماعة هنا عائدة على الرب جل وعلا يصف بها نفسه، وحيث وجدت هذا فاعلم أن الله يريد أن يدل على الفاعل الحقيقي وراء كل هذا الرزق حتى لا تشغل عنه بما أعطاك، وأن من أعطى قادر على السلب.
وهذا خيط ممتد على طول السورة ابتداء من قوله جل وعلا في المطلع: جعلنا، لنبلوهم، لجاعلون، مرورا بقوله في قصة أصحاب الكهف: ربطنا، وزدناهم، ونقلبهم، بعثناهم إلى آخر هذه الأفعال الدالة على الفاعل الحقيقي والمدبر الحقيقي للأمر كله.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر تفاصيل الجنتين؟
المتأمل في سياق الحديث عن الجنتين يرى تفصيلا في ذكر محاسنهما، فلم تكونا مجرد بستانين عاديين، بل جمع الله لها من الصفات ما أطال السياق في ذكرها لبيان شدة حسنها:
التثنية فلم تكن جنة واحدة بل كانت جنتان، مما يدل على كمال القدرة والتمكن فلو أصيبت أحداهما بقيت الأخرى.
التخصيص والتعميم في مزروعاتها: فخص العنب والنخل لأنها من اطيب الفواكه ويكتنز ثمرها فترة طويلة، ثم عمم بذكر الزرق لأن منافعها تدوم طول السنة.
حسن التنظيم: فقد جعل النخل محتفا بالزرع والزرع محتفا بالعنب وفي هذا كمال وجمال.
كثرة الماء وطيبه: فالنهر متفجر خلالهما لا ينقطع كل أيام السنة ولا كلفة فيه من أي وجه، وهو ماء نهر لا آبار فهو غني متجدد.
تمام الثمر: وهو واضح في قوله تعالى (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) أي تنقص، وهذا فيه مقابلة لظلمه حين أشرك بربه بعد تمام هذه النعمة كلها، ولينظر القارئ المتدبر بين وفاء هذه الأرض لصاحبها وفاء تاما، ونقصه مع ربه بعد ذلك.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وكان له ثمر؟
قيل في الثمر قولان:
أحدها أنه ثمر الشجر
والثاني: أنه أصناف المال الكثير، وهذا محمول في اللغة قال ابن فارس: الثاء والميم والراء أصل واحد، وهو شيء يتولد من شيء مجتمعا ثم يحمل عليه غيره استعارة، ومنه سمي ثمر الشجر ثمرا، ومنه سمي المال الكثير ثمرا، ويقال: ثمر ماله إذا كثر، وهذا القول أولى بالصواب لأن حمل الجملة القرآنية على التأسيس أولى من حملها على التأكيد، فقد سبق الحديث عن ثمر الشجر في قوله (كلتا الجنتين آتت أكلها) فالأولى أن يكون المراد هنا شيئا آخر وهو صنوف المال الكثير.
فالراجح في المعنى أنه كان لهم من صنوف المال سوى الثمر كالذهب والفضة والأنعام.
أما كلمة كان فلها دلالات مهمة: فهي إما أن تدل على أنه كان غنيا كابرا عن كابر
أو أن فيها إشارة إلى أن هذا الثمر سيزول قريبا.
وكلا الدلالتين في غاية العمق، يفسدهما الحديث عنهما وشرحهما فتأمل هذا يا رعاك الله.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ترتيب مقالة الرجل الكافر على ما سبق من ذكر ماله في قوله: فقال لصاحبه .. الآية؟
كان المتوقع بعد كل ما سبق من ذكر تفاصيل الجمال والإنعام من الله عز وجل في الجنتين، وما ذكر بعدها من حيازة المال، أن يسجد صاحبها شكرا لله على كل ما أولاه، إلا أن القارئ المتدبر يفاجأ بهذا الموقع من قبل صاحب الجنتين المتكبر.
المفاجأة أن أول القصة كانت كلمة (أنا) وثاني كلمة كانت (أكثر) وثالثة الأثافي كانت (أعز) وهذه الكلمات هي التي يحرك بها الشيطان الإنسان بالطريق الخاطئ، وهي أول كلمة قالها ابليس يوم أمر بالسجود (أنا خير منه)، وهذه الكلمة لم تضيع الناس في حياتهم فقط وإنما حتى في أهل الدين، يتكاثرون في الكتب والقراءة والمشايخ.
ابتدأ الرجل الكافر بالفخر على المؤمن بزيادة المال والنفر (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا)
ثم تلا ذلك دخوله الجنة واطمئنانه بها ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا)،
وختم حواره بمقولته الكفرية (وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا)
أول طريق كفران النعم هو التعامل الخاطيء مع نعم الله على الإنسان، فبدلا من أن تزيده خضوعا لله وتقربا إليه تزيده طغيانا واستغناء وتكبرا وعجبا، فيجد نفسه قد انزلق في طريق المباهاة والمفاخرة والتكاثر من النعم رغبة في أن يفضل على غيره، هذه هي الخطوة الأولى في الطريق، وقد تجسدت من قبل في استعلان إبليس بالمعصية حين قال( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)،
وإنه لمن المؤسف حقا أن تتخذ هذه الخطوة أشكالا متنوعة في عالمنا المعاصر وتتلبس بأثواب تخدعنا عن طبيعتها الفجة، فتتزين وتتزخرف بفلسفات ومنطق وأفكار تصورها للناس في صورة حب وتقدير للذات وثقة فيها أو الرغبة في خلق الحماس ونشر القدوة والشعور بالإنجاز وغير ذلك من صور لا تغني من الحق شيئا
هذه الخطوة إذا امتدت على الطريق وتمكنت آثارها في النفس فلابد أن تصل بالإنسان إلى الخطوة الثانية (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا)
إنه الاطمئنان بالدنيا والرضا بها حتى تصير هي غاية الإنسان الوحيدة ومنتهى أمله فلا يكاد يبصر خلفها شيئا ولا يرجو وراءها خيرا، إنه الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض والتثاقل إليها وكلها تعبيرات قرآنية ذمت فيها هذه الأمور واستنكرت على المسلمين أن يتصفوا بها، بل جاء في وصف الكافرين في سورة يونس (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون() أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون)
فإن من جعل أفضليته على الآخرين وخيريته وعزته مرتبطة بأحوال الدنيا ومتاعها لابد أن ينتهي به الحال إلى الاطمئنان بهذه الدنيا وحدها والتخلي عما سواها
ولذلك تأتي سريعا الخطوة الثالثة لتسفر عن كفر صريح وجحود لا لبس فيه
(وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا)
خطوة ثالثة غير متوقعة؟ بل متوقعة لو تتبعنا سير الخطوات وتدرج مراحل الانتكاس، فإن من ظن في الدنيا الخلود لابد أن يجحد الآخرة، إذ أن رجاء الآخرة مرتبط أساسا باليقين في فناء الدنيا وسرعة زوالها، ولذلك فإن جحود الآخرة كان مرتبطا دوما بظن الكفار أن الحياة الدنيا هي كل شيء (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)
الغريب أن الرجل المؤمن يفزع عند هذه الخطوة الثالثة المتمثلة في جحود يوم القيامة ويعتبرها كفرا بالله(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) ، فالإيمان بالله يرتبط ارتباطا لا ينفصم بالإيمان باليوم الآخر وقد تكرر ذلك الارتباط كثيرا في القرآن ولم يرتبط الإيمان بالله بأي ركن آخر من أركان الإيمان إلا بالإيمان باليوم الآخر
إذن ومن خلال قصة صاحب صاحب الجنتين رأيت_ والله أعلى وأعلم_ أن خطوات ثلاثة تتعاقب حتى تصل بالإنسان إلى كفران النعم وجحود الآخرة ومن ثم الكفر بالله والعذاب في الدنيا والآخرة، خطوات ثلاثة صار بعضها شائعا في عالمنا وثقافتنا اليوم تبدأ بالمفاخرة والتكاثر وتمر بالاطمئنان بالدنيا وتنتهي بالكفر والعياذ بالله، خطوات ثلاثة نرجو الله أن يجنبنا إياها ما حيينا إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير
ما مناسبة قوله جل وعلا: ودخل جنته، وهما في الحقيقة جنتان؟
هذه الكلمة في غاية العجب، وذلك أنها تشير – كما ذكر الزمخشري – إلى استيلائها على كيانه وحياته وقلبه، فكأنها صارت جنته لا جنة لها غيرها في الدنيا، حيث يشعر هنا بالفخر والانتماء، وقد استولت على قلبه.
وذكر أيضا أنها نصيبه من الجنان وليس له في الآخرة من نصيب.
وقد تكون جنة المفتون شجرا ونهرا، وقد تكون منصبا، وقد تكون ملكا، وقد تكون سوقا، وقد تكون وجاهة له بين الناس، وقد تكون جمالا، وقد تكون خطابة، فترى صاحب هذه المنحة والمعصوم من عصمه الله والمفتون من أتبع نفسه هواها.
وهذا المعنى في غاية الدقة فتنبه لهذا.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وهو ظالم لنفسه؟
فيه إشارة إلى العناية بالحال حين رؤية النعمة، فمن الناس من إذا رأى شهادته أو مجهوده أو منصبه أو جاهه أو علمه أو ماله، حمد الله وتواضع، كما قال ذون القرنين (هذا رحمة من ربي)، ومنهم من يتكبر كحال قارون (إنما أوتيته على علم عندي).
ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر قول الظالم لنفسه: ما أظن أن تبيد هذه أبدا؟
من أهم ما يغري به الشيطان ابن آدم قضية الاستقرار على الحال، وعدم تغيره، فقد قال لآدم عليه السلام ( هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)، ولذلك النفس البشرية تبحث عن الاستقرار، وكلما أحس الطاغية بالاستقرار واستتباب الأمر له استمر في طغيانه، ولأجل هذا عندما جاء موسى عليه السلام إلى فرعون قال لقومه (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) فكأنه يقول لهم مستخفا: قد عرفتموني وعرفتم اقصى ما يمكن أن أفعله بكم وهذا خير لكم من ما سيأتي ولا تدرونه، وهكذا يستخفهم مستغلا بحثهم عن الاستقرار.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قول الظالم لنفسه بعد ذلك: وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا؟
هذه هي الخطوة الثالثة كما ذكرنا: والتي تبدأ بالأنا وتمر بظن الاستقرار وتنتهي إلى التلازم بين الكرامة في الدنيا والكرامة في الآخرة.
والكلام هنا إما أن الرجل قاله وهو يعلم أنه كاذب: فيكون على سبيل الاستهزاء والتهكم – كما يقول السعدي – فيكون ضغثا على إبالة، وكفرا على كفر، كما استهزؤا بالنبي صلى الله عليه وسلم واصحابه حين فتوا العظم في وجهه وقالوا: من يحيي العظام وهي رميم، وحين قالوا: لئن بعثت لأوفينك حقك في الآخرة.
أو أن يكون قاله معتقدا به فيكون هذا من أجهل الناس وأبخسهم حقا لنفسه: فأي تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة؟
بل الغالب أن الله يزوي الدنيا عن أولياءه ويعطيها لأعداءه.
ما مناسبة ترتيب رد المؤمن على صاحبه الكافر؟
المتأمل في رد المؤمن على صاحبه الكافر يجده ردا معكوسا، حيث أنه رد على آخر فكرة خاطئة ثم على التي قبلها ثم على التي قبلها:
أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا في رده على إنكار البعث
ولولا إذ دخلت جنتك
إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا
لأنه رتب الرد على القضايا بحسب الأهمية: فأكبر جريمة هنا هي الكفر وإنكار البعث، ثم قضية دوام الجنتين، ثم التفاخر بالكثرة.
ما مناسبة ذكر التراب والنطفة ثم التسوية رجلا مباشرة دون المرور ببقية مراحل الخلق؟
ذكر المؤمن ههنا أكثر مرحلتين فيهما إهانة، فالسياق هنا ليس في الامتنان على الإنسان بتفاصيل خلقه وإنما في ذكر مهانة مبدئه، فذكر التراب وذكر النطفة الضعيفة القليلة التي تخرج من مخرج البول ليذكره بأصله حتى لا يتكبر ولا ينساق وراء مثل هذه الظنون.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها رد المؤمن على الكافر حين أنكر الساعة دون أن يرد عليه حين أظهر كبره وفخره عليه؟
المتأمل في القصة يرى أن الحديث بدأ بفخر الكافر على المؤمن (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا)، ومع ذلك لم يرد المؤمن، أما حين تعلق الأمر بالعقيدة (وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) حينها لم يجد المؤمن مناصا من بيان الحق حين تعلق الأمر بالعقيدة ( قال أكفرت بالذي خلقك ... )الآية.
وهذا يدل على أن الأمر لم يكن رغبة بالانتقام الشخصي أو الثأر من الغني، وإنما كان لأجل الله.
ما مناسبة قول المؤمن بعدها: لكنا هو الله ربي؟
هذا فيه استعلاء بالإيمان وإعلان له، السعدي (لما رآى ذلك قال على وجه الشكر لما هو فيه الإعلان عن دينه)، وهذا فيه توجيه مستمر للمؤمنين أن يستعلوا بدينهم مهما كان الحال ضيقا عليهم، ومهما كانوا في ضعة من الدنيا، فإن الإيمان يرفع صاحبه مهما كان، وإن الكفر يضع صاحبه مهما كان.
ما مناسبة قوله جل وعلا بعد ذلك: ولولا إذ دخلت جنتك؟
ولولا هنا: تفيد معنى الحض والتوبيخ.
وهذه الجملة تنتهي عند قوله تعالى (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، هنا ينتهي الكلام في الرد على النقطة الثانية ويبدأ بعد ذلك فصل جديد.
وهذه الجملة رد على قوله الصاحب الكافر: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وهي تبين مسلك المؤمنين في مقابل النعمة بالافتقار التام لله في مقابل مسلك الكافرين في مقابل النعمة وهو وهم الاستغناء.
وفيها تسليم للمؤمن ضد قول الكافر (ما أظن أن تبيد هذه أبدا) وكأنه يقول: كان الشأن أن تقول كذا وكذا بدل قولك ما أظن أن تبيد هذه أبدا.
ما معنى قوله: إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها قول الرجل المؤمن: فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك أو يرسل عليها حسبانا ..الآية؟
هاتان الجملتان متصلتان ببعضهما البعض، ومعناهما: ألأنك رأيتني أقل منك مالا وولدا تكبرت وتعظمت علي، فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة خير من جنتك في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا،
هذه الجملة تعبر عن حجم يقين الرجل المؤمن بأن الله قادر على أن يغير الدنيا كلها في طرفة عين:
يؤتين
ويرسل
فقط يؤتين ويرسل، وهذه دعوة للقارئ المتدبر إلى تمثل هذه الفكرة وغرسها في قلبه (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول كن فيكون).
وقوله: أن يؤتين خيرا من جنتك: يحتمل الدنيا والآخرة، ولم يذكر الله أنه أعطاه عوضا في الدنيا أو الآخرة طيا لذكر ذلك لعدم أهميته في ميزان الرجل الصالح.
ما معنى كلمة حسبانا؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها هذا المعنى؟
قيل في معنى كلمة حسبانا أقوال:
منها: أن حسبان مصدر بمعنى الحساب كالغفران بمعنى المغفرة، ويكون المعنى: يرسل عليها عذاب الحساب، حساب ما كسبت يداك.
ومنها: حسبانا بمعنى مرامي أي حجارة أو برد أو نحوها مما يشاء من أنواع العذاب.
ومنها: حسبانا أي نار من السماء واحدها حسبانة.
ومنها: الحسبانة الصاعقة.
واختيار هذا اللفظ الذي يحمل كل هذه المعاني المحتملة والتي يحار المرء في أيها يختار ليس لأجل التفنن في الكلام فحسب، بل هو للإشارة إلى سعة عذاب الله، وتنوع جنوده التي يرمي بها من يشاء (ولا يعلم جنود ربك إلا هو).
فتنوع العذابات وإخفاءها خلف لفظة واحدة لهو أشد إرهابا وتخويفا وزجرا من ذكر صنف واحد من العذاب.
ما مناسبة ذكر غور الماء بعد ذكر الحسبان؟
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وأحيط بثمره؟
لم يذكر القرآن في تفاصيل الهلكة سوى هاتين الكلمتين، في مقابل التفصيل في ألوان النعيم في هاتين الجنتين في أول القصة، وهذه عادة قرآنية حيث يجمل حيث يحسن الإجمال ويلزم، وهذا يؤكد على قضية مهمة: ألا يجعل الإنسان همه في شيء من أشياء الدنيا، ولا اعتماده إلا على شيء بداخله، وهو إيمانه بالله ويقينه به وتوكله عليه، ومهما انهارت حوله الأشياء يبقى معتزا بالله متوكلا عليه قويا به (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وما كان له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا؟
بداية القصة فتنة وابتلاء، فهذا الكافر ابتلي بالنعمة فكفر، وهذا المؤمن ابتلي بصاحبه الكافر أيثبت على الحق رغم الفتنة أم تغره الدنيا ويخضعه المال والقوة فثبت وجاهد وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر
فكانت نهاية الكافر: (وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةࣱ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)
نهاية تقر بها عين كل مؤمن ويذل بها كل كافر، نهاية تفيض ترهيبا وتثبيتا، ترهيبا لكل ظالم فلا يتمادى في طغيانه ولا يتصور أنه يسبق ربه أو يعجزه هربا، وتثبيتا لكل مؤمن مستضعف تناوشته مكائد الظالمين وانسحق قلبه حزنا تحت وطأة قهرهم فلا يقنط من رحمة الله ولا يفت في عضده سلطانهم إذ يعلم أنه مهما طال زمانه واستعظم كيانه زائل لا محالة
أما بين البداية والنهاية فقبض على الجمر وغربة ووحشة وجهاد ويقين وتوحيد وثبات، بين البداية والنهاية مؤمن واثق في وعد ربه ينتظره في الدنيا والآخرة لا يأبه بزخارف الطغاة ولا تخيفه كثرتهم، بل يبصر بقلبه مشهد النهاية ويردد في نفسه (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا)
ونفى النصر من جهتين:
من ناحية الأعوان والأنصار (فلم تكن له فئة ينصرونه من دون الله)
ومن ناحية نفسه (وما كان منتصرا) أي بنفسه.
فلم تنفعه قوته ولم يفزع له أحد ولم يبق إلا الولاية الحق.
ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: هنالك الولاية لله الحق؟
اختلفوا في معنى هذه الجملة لاختلافهم بفتح الواو أو كسرها:
فمنهم من رجح الكسر: الولاية: بمعنى السلطان والملك والقهر.
ومنهم من رجح الفتح بمعنى: النصرة والموالاة.
فعلى معنى الفتح يكون المعنى: هناك أي في لحظات نزول العذاب يتولى الناس رب العالمين أي يستنصرون به، كما حصل مع فرعون (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل).
وقد يكون المعنى على الفتح: أن الله في هذه اللحظة يتولى المؤمنين وينصرهم النصرة الحقيقة النافعة.
والحق:
إما مرفوعة على أنها صفة للولاية، ويكون المعنى: هناك الولاية الحقيقة لله.
أو مجرورة على أنها صفة لله، ويكون المعنى: هناك الولاية لله الحق لا الآلهة الباطلة التي زعموها.
وانظر إلى كثافة المعاني في اللفظ القليل، وانظر ما تفيده هذه الكلمات المعدودات بهذه الأوجه من معان واسعة.
ما مناسبة قوله تعالى (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء .. )؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها هذا المثل؟
واضرب هذه خارجة من رحم واضرب لهم مثلا رجلين في بداية الفصل، وهي بداية الحديث عن علاج فتنة الدنيا، وأول مراحله (تصور حقيقة الحياة الدنيا) وأنها سريعة الزوال، لا تلبث أن تنقضي، لذلك نلحظ ما يلي في هذه الآية:
جاء تعقيب الجمل الثلاث بالفاء:
كماء أنزلناه من السماء
فاختلط به نبات الأرض
فأصبح هشيما تذروه الرياح
خص المثل بما اختلط بالماء من نبات الأرض دون ما سقي، لأنه نبت غير دائم سرعان ما ينقضي ويزول حال انتهاء موسم المطر، فليس زرعا دائما ثابتا يسقى ويرعى، وإنما هو حالة عابرة.
ولأجل هذا عبر عن اختلاط نبات الأرض بالماء، للدلالة على قصر عمر النبات، فهو باق ما دام مختلطا بماء السماء، فإذا جف الماء وزال الاختلاط، جف ويبس وانقطع، وصار هشيما تذروه الرياح.
التعبير عن هذا كله بثلاث جمل قصيرة متوائمة مع قصر حياة النبات ثم فناءه تناغما مع حقيقة الحياة المتسارعة الفناء.
جمع الرياح إشارة إلى ضعف الهشيم: فإن الرياح أضعف من الريح لتضادها وإضعاف بعضها بعضا، وما عبثت به الرياح لا شك أنه أضعف وأخف.
وهكذا كانت حياة ابن آدم، يخرج إلى الدنيا في غاية الضعف، ثم سرعان ما ينمو ويكتمل، ثم يدب إله الضعف، ثم يرحل إلى الدنيا كأن لم يكن بالأمس.
ومن عجيب ما في هذه الآية أغفال ذكر مفاتن الحياة الدنيا، وهذا فيه إشارة إلى قصر هذه المفاتن وكأنها لم تكن ولم توجد:
أَعوامُ وَصلٍ كانَ يُنسي طولَها
ذِكرُ النَوى فَكَأَنَّها أَيّامُ
ثُمَّ اِنبَرَت أَيّامُ هَجرٍ أَردَفَت
بِجَوىً أَسىً فَكَأَنَّها أَعوامُ
ثُمَّ اِنقَضَت تِلكَ السُنونُ وَأَهلُها
فَكَأَنَّها وَكَأَنَّهُم أَحلامُ
وأبلغ منه قول الله جل وعلا (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
ما مناسبة الآية التالية: المال والبنون زينة الحياة الدنيا .. الآية؟
بعد أن بين في الآية السالفة سرعة انقضاء الحياة الدنيا، بين ههنا حقيقة حالها، وأنها (زينة) ولفظ زينة هنا خارج من رحم قوله تعالى في أول السورة (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) ومرتبط بقوله جل وعلا (ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا)، وهذا ثالث وآخر مواضع ذكر هذه اللفظة في هذه السورة، لأن معرفة هذه الحقيقة تعينك على اجتياز هاتين الفتنتين: الدين والمال، ووصفهما هنا بالزينة لأجل الذم لا لأجل المدح.
ووصفهما بالزينة لأن الزينة هالكة غير باقية، فالمال والبنون هالكان لأنهما زينة، وما كان هالكا لا يفتخر به، ثم أكد هذا المعنى ببيان ضده في الأعمال الصالحة، فوصفها بالباقيات: لأنها لا تفنى مثل المال والبنون، ووصفها بالصالحات: تعريضا بالمال والبنون بأنهما قد لا يكونان كذلك ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدو لكم فاحذروهم)
ما معنى الباقيات الصالحات؟ وما مناسبة تقديم الباقيات على الصالحات؟
الصحيح في تفسيرها أنها كل عمل صالح يبقى أثره بعد موت صاحبه ليجزى به يوم القيامة، فكل طاعة لله من الباقيات الصالحات، وأما تفسيرها بالصلاة أو التسبيح أو التهليل فمن باب التفسير بالمثال والنوع ولا يقصد به الحصر.
المتأمل في السياق وحضور مشهد الزوال في هذه القصة يعلم سر ورود هذه اللفظة هنا، إذ قدم البقاء لهذه الصالحات في مقابل الزوال لهذه الدنيا ومتاعها، فليس المقصود الحديث عن الأعمال الصالحات أو بيانها، وإنما المقصود التنبيه على بقاءها لأن الجزاء عليها أبدي لا ينقطع فهي لذلك باقية لا تزول.
ما مناسبة تذييل الآية بقوله جل وعلا: خير ثوابا وخير أملا؟
في أول سورة الكهف آيتان محوريتان عن زينة الدنيا وتوضيح طبيعتها ومصيرها للناس فهي ما جُعلت إلا لابتلائهم أيهم أحسن عملا ومصيرها حتما إلى الفناء:
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا() وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جُرُزا)
ثم يتكرر الكلام عن زينة الدنيا مرتين في السورة تأكيدا لنفس المعنى وتوضيحا له باستخلاصه عبر قصتين مختلفتين، فعقب قصة أصحاب الكهف تأتي الآية الكريمة وكأنها تعقيب عليها: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)
فكأن زينة الحياة الدنيا هي أول ما يجب أن يخاف المؤمن منه على نفسه أن يشتته ويبعده عن الصحبة الصالحة وكهف النجاة لذا حُذِّر منه قبل حتى التحذير من الضالين المضلين
ثم عقب قصة صاحب الجنتين تأتي الآية الكريمة وكأنها تعقيب عليها: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا)
وكأنها تهدم كل تصورات صاحب الجنتين الباطلة التي أوهمته بأفضلية زائفة على صاحبه لمجرد أنه أوتي مالا وولدا، وكأنها تؤكد أن زينة الحياة الدنيا المتمثلة هنا في المال والبنين هي فتنة عظيمة للناس لو جعلوها ميزانا للتفضيل ومعيارا للخيرية، فتعيد الآية الأمور إلى نصابها وتضع موازينها وتنبئنا أن الباقيات الصالحات وهي تشمل كل عمل خير هي خير عند ربنا ثوابا وخير أملا
وتأملوا كلمة (أملا) هذه بأي شيء توحي؟ وتخيلوا أي آمال يعقدها الناس على أبنائهم وأموالهم ثم تفكروا أن الباقيات الصالحات خير أملا
ما مناسبة قوله جل وعلا بعد ذلك: (ويوم نسير الجبال .. )الآيات؟
ابتداء الحديث عن هذا المشهد الأخروي بالحديث عن تسيير الجبال مناسب لجو الحركة والزوال المستمر على طول السورة، وهذا الجو مناسب أيضا لمقصد السورة عن الفتن باعتبار أن الدنيا – وهي محل الفتنة – سريعة التحرك والزوال، وكأن الجو نابع من قوله جل وعلا (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)
وأما وصف الأرض بالبارزة هنا، للتأكيد على انتفاء أي احتمال لاختباء أحد أو هروبه من الحشر يومئذ.
هذه عادة قرآنية في هذه السورة وهي ذكر الآخرة في كل ثنية من ثناياها، فقد ذكرت في أولها ثم ذكرت بين القصص حتى تبقى حاضرة في ذهن القارئ لا تغيب عنه.
ولا بد للقارئ المتدبر أن يسأل بعد أن قرأ قوله تعالى: والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا، لا بد أن يسأل نفسه أو يخطر في باله عن أوان كونها خير، وعن حيثيات كونها خير ثوابا وخير أملا، فتأتي هذه الآيات لتنقلك من الصراع بين المال والبنون من جهة والباقيات الصالحات من جهة، إلى الوقت الذي تزول فيه الزينة وتبقى الصالحات.
والحديث عن تسيير الجبال هنا في غاية المناسبة عقب الحديث عن سرعة زوال الدنيا وبقاء الآخرة ودوامها، فالآية توضح أن الجبال يوم القيامة وهي الأثقل بطبيعة الحال من زينة الحياة الدنيا، تفقد رسوخها وثباتها، وتمسي هباء منثورا، بينما تبقى الباقيات الصالحات ثابتة راسخة دائمة كما كانت في الدنيا.
وتأمل قوله جل وعلا (وترى الأرض بارزة) وتأمل ارتباطه بقوله في أول السورة (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا).
ما مناسبة قوله جل وعلا بعدها: وعرضوا على ربك صفا .. الآية؟
ذكر الحشر يثير لدى القارئ تساؤلا عن سبب هذا الحشر فتأتي الآية هنا لتبين سبب الحشر وهي العرض (وعرضوا على ربك)، وجاء البيان بصيغة المبين لمن لم يسم فاعله للتركيز على العرض نفسه لا على المعروض لأنه معروف.
فعقب الحديث عن الحشر بالحديث عن العرض.
ثم تمضي لتبين طريقة العرض (صفا) أي متساويين لا فرق بين غني وفقير، فلا تفاوت هنا كما كان التفاوت في الدنيا، ويؤكد هذا الجملة التالية ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) أي حفاة عراة غرلا، ليس معكم من متاع الدنيا – الذي كنتم تطمئنون إليه شيء)
ثم تذيل الآية بقوله ( بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا) وكأن الآية ترد على قول صاحب الجنتين آنفا ( وما أظن الساعة قائمة)
ما مناسبة اختتام الفصل بالحديث عن وضع الكتاب؟
هنا تكتمل فصول المشهد فإن الحديث عن تسيير الجبال وزوالها من أماكنها يترك فراغا في ذهن القارئ، فما الذي سيحل محل هذه الجبال؟
يأتي الجواب هنا في قوله تعالى ووضع الكتاب، زالت الجبال ووضع الكتاب، وكأن هذا الكلام خارج من رحم قوله تعالى والباقيات الصالحات، تزول الدنيا كلها بأعظم ما فيها، بجبالها، ثم يوضع الكتاب، ولئن سألت نفسك عن العلاقة بين الجبال والكتاب، فلا تسأل عن ثقل المكتوب، وثقل الحساب، وكأن ما فيه يشبه الجبال، وكأن الإنسان حين يعاين ما فيه إنما يوضع في مقابل جبال سيئاته، وكأن الحساب الجاثم على صدره يشبه الجبال.
ثم إنك ترى أن قوله جل وعلا: ووجدوا ما عملوا حاضرا، خارج من رحم قوله تعالى: لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وأن قوله تعالى: ويوم نسير الجبال، خارج من رحم قوله تعالى: وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا.
ما هي الدلالات التي ينتهي إليها استخدام كلمة المجرمين؟
جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved