فتنة الدين في قصة أصحاب الكهف

 

 

 

تنة الدين)

( قصة أصحاب الكهف)

​​ أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾ إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَة وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدا ﴿١٠﴾ فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدا ﴿١١﴾ ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدا ﴿١٢﴾ نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدى ﴿١٣﴾ وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذا شَطَطًا ﴿١٤﴾ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبا ﴿١٥﴾ وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقا ﴿١٦﴾ ۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ​​ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ​​ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّا مُّرۡشِدا ﴿١٧﴾ وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ​​ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبا ﴿١٨﴾ وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ​​ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ​​ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَاما فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ​​ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ﴿١٩﴾ إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدا ﴿٢٠﴾ وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ​​ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰناۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدا ﴿٢١﴾ سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ​​ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ​​ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَة وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآء ظَٰهِرا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدا ﴿٢٢﴾ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِل ذَٰلِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدا ﴿٢٤﴾ وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَة سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعا ﴿٢٥﴾ قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا​​ لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدا ﴿٢٦﴾ وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدا ﴿٢٧﴾ وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطا ﴿٢٨﴾ وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ​​ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ﴿٢٩﴾ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ﴿٣٠﴾ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡن تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرا مِّن سُندُس وَإِسۡتَبۡرَق​​ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقا ﴿٣١﴾

ما هو موضوع هذا الفصل، وما مناسبته لمقصد السورة؟

هذا الفصل يحكي قصة أصحاب الكهف، وقد ذكرها القرآن بطريقته الغالبة في سرد القصص وهي الإجمال والاكتفاء بمواطن العبرة التي​​ تؤدي الغرض المقصود، دون الخوض في التفاصيل التي يعتني بها المؤرخون عادة كذكر الزمان والمكان والأسماء ونحو ذلك، فإن منهج القرآن الإعراض عنها، لعدم الحاجة إليها.

والفتنة محل البحث هنا هي فتنة الدين.

وهؤلاء الفتية ليسوا بأنبياء مطالبين بالمواجهة، ولا بأقوياء يستطيعون المقاومة، فآثروا الفرار بدينهم واعتزال قومهم إذ لم يتمكنوا من إقامة دينهم على ما ينبغي.

وواضح أن دين المدينة التي كانوا فيها كان الشرك (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة )، وواضح أن ملك المدينة كان جبارا ظالما يجبر الناس على عبادة غير الله، وذلك في قوله (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا)

ومعلوم أن الكهف مكان فرار لا مكان قرار فقد لجؤوا إليه حتى يروا رأيهم ويمضوا في طريقهم بعد هدوء الطلب وغياب الرقيب، ولكن الله أراد أن يجعلهم آية ليعلم المؤمنون أن الله حافظ من حفظه،​​ ومؤوي من آوى إليه.

وقد صار هذا الكهف الضيق الموحش الفاقد لكل أسباب الحياة، صار عندهم مصدر رحمة الله وموضع رفقه، ومنبع رأفته.

ما مناسبة ابتداء الحديث عن القصة بهذه الآية: أم حسبت أن أصحاب.. الآية؟

هذه الآية هي مفتاح هذا الفصل الذي يتحدث عن سورة الكهف، ومن اللافت للنظر ابتداء هذا الفصل بهذه السورة، والمتأمل في هذا الفصل يرى أنه يبتدأ بهذه الآية، ثم اختصار للقصة في ثلاث آيات، ثم يمضي السياق في تفاصيل القصة، وهذا التحليل مهم جدا في معرفة حركة المعنى في السورة لفهم مراد الله عز وجل في كلامه.

وتأتي هذه الآية قبل​​ الخوض في القصة نفسها، وتوقف قارئها قبل الخوض في ثناياها لتقول له: كل ما ستسمعه من الأمور العجيبة التي ستتلى عليك، ليس هو أغرب ما في آيات الله، سواء كانت الآيات المنظورة أو الآيات المسطورة، أي سواء كانت هذه الآيات ما خلق الله في السموات والأرض، فليس عجيبا إذا نظرت إلى آيات الله في الآفاق والأنفس، فليس طلوع الشمس بأعجب من لبث أهل الكهف، وليس إيلاج الليل بالنهار بأعجب منه، وليست ولادة الأجنة بعد لبثها في بطون أمهاتها بأعجب منها.​​ 

فكأنها توسع مدارك القارئ قبل أن يقرأ وتلفت نظره إلى عجائب هذا الكون التي لم نعد نبالي بها بسبب اعتيادنا عليها، قبل أن ننبهر بالعجائب التي لم نعتد عليها، والتي تعد أقل من سابقتها في ميزان العجب.

فكثرة الاهتمام بالغرائب والعجائب قد يصرف الإنسان عن تأمل عجيب خلق الله في الكون، وهذا ما حصل مع بني إسرائيل في عيسى عليه السلام، حيث استغربوا​​ خلقه من غير أب، وليس خلق عيسى عليه السلام بأعجب من خلق آدم، ولا بأعجب من خلق حواء، ولا بأعجب من خلق الإنسان نفسه من أب وأم، من نطفة إذا تمنى.

أو كانت هذه الآيات هي الآيات المسطورة في هذا الكتاب، فليس خبر الفتية بأعجب مما ورد في القرآن من تفصيل كل شيء، من أخبار الماضي السحيق إلى الإخبار بما سيكون، إلى وصف الجنة والنار والآخرة، إلى التأسيس لمنظومة عقدية متكاملة من أحسن ما يكون، فليس هذا الخبر بأعجب من هذا القرآن، وكأن هذه الآيات تنعي على الكفار تركهم الإيمان بالقرآن وبحثهم وتتبعثهم لمثل هذه القصص والأسئلة لإثبات أحقيته.

فهذه الآية في غاية الأهمية لأنها تعيد التوازن لك قبل أن تقص عليك القصة.

 

ما هي مناسبة ذكر الرقيم هنا وعطفها على الكهف؟

هذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها الرقيم، وورودها هنا عجيب، وليست كلمة تذكر هكذا عفوا، ولكنها جاءت لتلفت نظرك إلى معنى، وكان يكفي السياق (أم حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا عجبا)، فلماذا ذكر الله عز وجل الرقيم ههنا؟

قيل في الرقيم أقوال، أشهرها أنه لوح مكتوب (كتاب مرقوم)، فأصل الرقم يدل على خط وكتابة، فما هو المكتوب في هذا الرقيم؟

قيل فيها أقوال:​​ 

منها: أسماؤهم

ومنها: أنه​​ كتاب هداية من بقايا الكتب السابقة، ولو أخذنا بهذا القول، فهكذا تتم بيئة الإيمان:

صحبة صالحة وكتاب هداية.

وهذا محمود في مثل حال الفتية حيث غلبهم قومهم على دينهم ولم يستطيعوا فعل شيء.

ومما يعضد هذا القول ما سيأتي من حديث عن علاج هذه الفتنة (واتل – واصبر)

ومما يعضده افتتاح الحديث في أول الآية عن الكتاب.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ابتداء الحديث عنهم بلفظة: إذ أوى؟

إذ هنا في غاية الأهمية، لأنها تشكل لنا بداية القصة وهي لحظة الإيواء، فمن هنا تبدأ الحكاية كما بدأت في قصة أصحاب الجنة بقوله (إذ أقسموا)، ولحظة القتل في قوله (إذ تحسونهم بإذنه) فكانت لحظة الأوي هي اللحظة الفارقة في هذه القصة.

وإذ إما متعلق بكانوا فتكون الجملة متصلة بما قبلها، ويكون المعنى: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا حال أويهم إلى الكهف.

وإما متعلق بفعل محذوف تقديره: اذكر، فتكون مستأنفة استئنافا بيانيا أي لتبين ما كان في الجملة التي قبلها.

القصة الأولى في سورة الكهف والتي سميت باسمها السورة هي قصة أصحاب الكهف، والعجيب أن بداية سرد القصة في السورة لم تكن وفق الترتيب الزمني الذي وقعت فيه أحداث القصة، وهذا أمر مهم التنبه له، التفريق بين ترتيب الأحداث تبعا للسرد القرآني وترتيبها تبعا لزمن وقوعها بالفعل، فتقديم بعض الأحداث في السرد رغم وقوعها متأخرة زمنيا لابد أن يكون له دلالة اهتمام وعناية، من هنا ننتبه أن قصة أصحاب الكهف افتتحت بقوله تعالى﴿إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا﴾ رغم أن القصة كما سيتبين لنا بعد آيتين فقط تبدأ حقيقة ب {نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّ إِنَّهُمۡ فِتۡیَةٌ ءَامَنُوا۟ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَـٰهُمۡ هُدࣰى}​​ مشهد الافتتاح ينبئنا بشكل ما أن نقطة التحول في أحداث القصة وربما المغزى الأهم على الإطلاق منها هو لحظة إيواء الفتية إلى الكهف ملتجئين إلى ربهم داعين بضراعة وافتقار {ربنا آتنا من لدنك رحمة}، ربما لذلك تعاد هذه اللحظة بالذات في سياق الترتيب الزمني للأحداث﴿وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥۤا۟ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا﴾ وكأنها هي ذروة الأحداث التي ينقلب بعدها السياق السردي إلى مشاهد مختلفة تماما تسوقنا​​ نحو خاتمة القصة(1)، هذه العناية الكثيفة بمشهد الضراعة والافتقار إلى رب العالمين بوصفه أهم مشاهد القصة يقابله مشهد وقوف الفتية بصلابة وعزة وثبات في مواجهة قومهم المشركين واستعلانهم بالإيمان رغم كل المغريات والمخاوف {وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ​​ تِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَاۤ إِذࣰا شَطَطًا} ، أنا اليوم أسيرة هذا التقابل بين المشهدين، مشهد الإقرار بالضعف والفقر أمام رب العالمين ومشهد القوة والثبات في مواجهة المشركين،

ومن الفوائد المستنبطة من هذه القصة العجيبة أن من أوى إلى الله آواه الله ولطف به وجعله سببا في هداية الضالين، فإن الله لطف بهم في هذه النومة الطويلة إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من فتنة قومهم وقتلهم

والحقيقة أن المعنى الثاوي في هذه الفائدة من أعظم المعاني​​ الإيمانية التي نخرج بها من تلاوتنا سورة الكهف كل جمعة، إنه معنى الإيواء إلى الله واستشعار أننا _إذ نمضي في هذه الحياة فيتناوب علينا الابتلاء بالشر تارة والابتلاء بالخير تارة وتتمزق قلوبنا بين مخاوف ومطامع شتى وتتشتت أبداننا وأرواحنا في طرق عدة_ ليس لنا ملجأ من كل ذلك إلا الله وليس لنا مأوى نأوي إليه فرارا من كل ذلك إلا الله

وافتتاحا بالقصة الأولى فيها يبرز هذه المعنى كأكمل ما يكون، هؤلاء فتية قليلون يقفون في وجه قوم مشركين، يقومون قومة لله وحده فيستعلنون بإيمانهم وينبذون معتقدات وُلدوا ونشأوا عليها ويتحدون​​ أهليهم وأقرب الناس إليهم (وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ​​ تِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَاۤ إِذࣰا شَطَطًا) ثم يرون أنه لا سبيل لهم إلى البقاء في هؤلاء الناس لأنهم متعرضون للفتنة حتما إما في دينهم وإما في أبدانهم، إما بزينة الدنيا وسلطة العقائد الغالبة وإما بالتخويف والأذى والوعيد، ولذلك كان قرارهم هو الفرار من كل هذا والانعزال عنهم دون أي خطة واضحة أو أمل قريب، لكن اللافت أنهم بمجرد الاعتزال طلبوا المأوى (وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥۤا۟ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا)  فالإنسان لا يمكنه الانقطاع عن كل انتماء والإنسان لابد له من مأوى يأوي إليه وملجأ يعتصم به، والسعيد من آوى إلى ركن شديد والموفق من آوى إلى ربه ومولاه.

هذا الصدق في الإيواء إلى الله لا يتجلى لنا فقط في قولهم (فأووا إلى الكهف) بل في تصديق الرب لهم حين حكى لنا قصتهم ووصف أول أفعالهم بأنهم (إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا)​​ 

هذا المأوى لم يكن إلى الكهف رغم أن هذا هو الظاهر من فعلهم وحديثهم، بل كان مأوى إلى رب الكهف حين رددوا: ربنا آتنا وحين قالوا: ينشر لكم ربكم

ومن يتصور أن فتية مثلهم يتخلون عن مأوى الأهل​​ ومأوى العشيرة وكل مأوى في الحياة ليأووا إلى كهف خشن لا يجدون فيه إلا الوحشة والغربة والضيق؟! إنما كان مأواهم الذي هوَّن في نفوسهم كل مأوى غيره هو مأواهم إلى ربهم واعتصامهم به، ذلك أنهم علموا من ربهم الرحمة والقدرة والرفق وغيرها من الصفات العلية التي لا يحدها شيء فآثروا مأواه وفروا إليه فآواهم الله ولطف بهم وجعلهم سببا في هداية الضالين، وهذه هي العاقبة الحسنة حقا، وهذا هو يقين المؤمن الذي لا يتزعزع، أنه إذا أوى إلى الله آواه الله فتولاه ولطف به وهداه ونجاه ولم يكله إلى نفسه طرفة عين

وهذا هو يقيننا في ربنا نجدده اليوم إذ نأوي إليه فلا نظن إلا أنه يؤوينا، ونعتصم به فلا نظن إلا أنه يعصمنا، ونسأله الرحمة والهدى واليقين والنجاة من الفتن فلا نظن إلا أنه يستجيب لنا

ما مناسبة التعبير عنهم بلفظ القيام في قوله: إذ قاموا؟

القيام هنا يحتمل أمورا:​​ 

منها: قيامهم بين يدي الملك ومبارزتهم إياه بالإيمان، وهذا أمر محتمل ثم كان هروبهم بعد ذلك.​​ 

ومنها: القيام بأمر الفرار بدينهم يقال قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد.

ولا تعارض بني هذين الاحتمالين فلا مانع من الحمل عليها جمعيا، واللافت للنظر في هذا السياق هو التعبير عنه​​ بلفظ القيام المخالف لحالة القعود، وفي هذا إشارة إلى همتهم وعزمهم وترك ركونهم إلى الحياة الدنيا والاعتياد عليها، فالدين يحتاج إلى من يقوم به ويقوم عليه، والمعالي تتجاوز القاعدين.

 

ما مناسبة ذكر دعائهم بعد ذلك؟ وما مناسبة سؤال الرحمة والرشد؟

في ظل هذه الظروف​​ الموحشة، كهف مظلم وقرية ظالمة، يأوي هؤلاء الفتية إلى الكهف، ثم يذكر القرآن حالهم، لم يذكر لباسهم ولا طعامهم ولا شرابهم ولا طولهم ولا عرضهم ولا أي صفة أخرى من صفاتهم، سوى: هذا التضرع والانكسار بين يدي الله عز وجل، وهذا فيه إبراز لهذا المعنى واهتمام به خاصة​​ أنه جاء في فقرة (الآيات المختصرة).

طلبوا هنا رحمة مخصوصة (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) أي رحمة مخصوصة بكم.

لحظات الانكسار والافتقار عزيزة على الله، فلأجل ذلك خلد ذكرها في أول قول قالوه بعد أن أووا إلى الكهف، وإظهار العبودية بالدعاء هنا ليس غريبا،​​ ففيه خيط متصل بقوله جل وعلا في أول السورة (على عبده)،​​ 

 

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها وصفهم بالفتية؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها إغفال أسمائهم؟

في سورة الكهف التي نأوي إليها كل ما قرأتها تخليد لأربع قصص كبيرة ضمت في أثناء أحداثها عددا من الناس لم يذكر أحد فيهم باسمه سوى شخص واحد هو موسى عليه السلام، الباقون لم نعرف أسماءهم ولا هيئاتهم ولا حتى أين ومتى عاشوا، المعلومات محدودة تماما فيما يتعلق بهذه التفاصيل، في المقابل ثمة أوصاف وأفعال عُني بإبرازها وتخليدها في كتاب يُتلى إلى يوم الدين، هذه الأوصاف تعلقت بأمور لو وزنت وفق موازين زماننا هذا فالراجح أنها لن تنال سوى قدر ضئيل من الاهتمام فيما عدا ما يتعلق بذي القرنين بالطبع ​​ :))

لو تأملنا بإيجاز مخل بالتأكيد ما قام به أصحاب الكهف فإننا سنجد {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} هؤلاء الفتية استعلنوا بإيمانهم ثم خوفا من الفتنة اعتزلوا قومهم في كهف بعيد ليناموا أكثر من ثلاثة قرون ثم يستيقظوا فيجدوا العالم كله قد تغير، أما صاحب صاحب الجنتين هذا الذي لم نعرف قط اسمه ولا مكانه وزمانه فإن وقفته في وجه صاحبه المتكبر وإنكاره عليه هو ما خلد ذكره في الكتاب، ماذا كان يعمل هذا​​ الرجل؟ لا نعرف، ما مقدار ماله وجاهه؟ طيب ماذا فعل للدين غير تلك الوقفة؟ لا نعرف​​ 

العبد الصالح الذي قطع إليه موسى عليه السلام كل هذه المسافات ليعلمه مما عُلّم رشدا ماذا نعرف عنه غير أنه {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}؟! ​​ وأصحاب السفينة ووالدا الغلام القتيل وأبو الغلامين اليتيمين؟ ما أسماؤهم ؟ ما طبيعة أعمالهم التي هيأت لهم هذه العناية والولاية؟! لا نعرف

حتى ذو القرنين ما هو اسمه الحقيقي؟ من أي البلاد كان؟ ما تفاصيل هذا التمكين العظيم الذي مُكِّن فيه؟ كم دام ملكه؟ وإلى أي حد​​ اتسع؟ لا نعرف

​​ هكذا إذن نكتشف كم نجهل عن أصحاب هذه القصص من تفاصيل!هكذا إذن نكتشف كم هم مجردون من الإنجازات المادية والبطولات الخارقة على مقياس زماننا المعاصر!

​​ اعتزلوا وناموا، وقف وقفة في وجه صاحبه، أوتي علما ورحمة وساهم في إنقاذ أناس مجهولين بطرق عجيبة غير مألوفة، فأصبحوا أبطالا مخلدين في القصص القرآني الذي يُتلى على ألسنة وأسماع ملايين المسلمين بلا انقطاع كل يوم وليلة؟​​ 

 

🌾​​ حقائق وبصائر :

الحقيقة أن الأمر ليس كذلك، لقد آمنوا بربهم وجاهدوا كل ما أحاط بهم من فتن ومغريات واختاروا الوحشة والاعتزال من أجل الحفاظ على دينهم، لقد ثبت في وجه فتنة المال والولد ولم يأبه لطغيان وقوة الغني المتغطرس واستمسك بدينه وإيمانه حتى النهاية، لقد بلغ من علمه بربه وحكمته ورحمته أن استسلم لأوامر ربه فقام بها خير قيام مهما كانت عجيبة منكرة في نظر أتقى الناس وأعبدهم وأعلمهم، لقد ظل​​ رغم قوته وتمكنه في الأرض واتباعه للأسباب عبدا لله خاضعا لا يتحرك إلا وفق أمره ونهيه، لقد كانت البطولة الحقيقية والإنجاز الأهم لهؤلاء المخلدين هو إيمانهم الذي لم تشبه شائبة وتوحيدهم الخالص رغم كل الفتن والمغريات وزخارف الزينة ومشقة الطريق، إنها البطولة التي لا يعرفها أولئك المشغوفون ببطولات الأرقام المليونية في ثروات الأغنياء ومتابعي المشاهير وترندات فيسبوك وتويتر، إنها الإنجازات التي لا تنتمي إلى عالم المادة، وإنه الخلود الذي لا يعرفه الواقعون في حب الاستعراض المهووسون بالشهرة والانتشار​​ 

ولفظ الفتية يدل على قوة وعزم،​​ 

ولفظ الفتية يدل على قوة الشهوة وشبابها،​​ 

وفيه ثناء على الفتية إذ أن الفتية عادة أقدر على الوقوف في وجه المجتمعات وتقبل الصواب حتى لو كان غريبا عن عاداتهم وتقاليدهم.

 

ما مناسبة انتهاء العشر آيات التي تنجي من فتنة الدجال بلفظة الرشد؟​​ 

الرشد كما​​ يقول ابن فارس: الرَّاءُ وَالشِّينُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقَامَةِ الطَّرِيقِ. فَالْمَرَاشِدُ: مَقَاصِدُ الطُّرُقِ. وَالرُّشْدُ وَالرَّشَدُ: خِلَافُ الْغَيِّ. وَأَصَابَ فُلَانٌ مِنْ أَمْرِهِ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرِشْدَةً. وَهُوَ لِرِشْدَةٍ خِلَافٌ لِغَيَّةٍ.

وقد ذكر الدكتور حسن جبل أن الرشد هو استقامة في صلابة، وهو المتناسب مع معاني السورة وجوها.

والرشد والرشد بمعنى، وغلب استخدام الرشد بالضم في حسن تدبير المال مما هو من شأن الدنيا، والرشد بالفتح لأمر الدين والدنيا وجاء تفضيل إحداهما على​​ الأخرى في مواضع لمناسبته لما حوله من اللفظ.

 

ما مناسبة قوله تعالى بعد ذلك: فضربنا على آذانهم .. الآية؟

الفاء هنا إما أن تكون مفرعة على الأوي أو على القول، فإن كانت الأولى فمعناه أن الله عجل لهم ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم، وإن كانت الثانية فيكون إجابة لدعائهم.

وتأمل نا الدالة على الجماعة مع الفعل، لينبهك دائما إلى الفاعل الحقيقي.

وقد كان من المتوقع للقارئ المتعجل الغافل عن سنن الله في خلقه أن يهلك الله القرية التي أخرجهم بصاعقة عامة، أو زلزال شديد، أو يرسل عليهم حاصبا من السماء، فكان المفاجأة ههنا أنهم ناموا، فقط ناموا، حفظهم بالنوم، فقط بالنوم لا ملائكة تحفظهم ولا نور يحيط بهم، دون أسباب.

وهذه عادة الله في خلقه، أنه يجري القدر بما أراده بأبسط الأمور، وبدون أسباب، لو قلنا لك: أن البشر سيتباعدون ويلبث كل منهم في بيته وتخلو الأماكن من الناس بعد أن امتلأت بهم، لظننت أنه بسبب كارثة أو مصيبة أو زلزال أو غزو فضائي، فإذا به فيروس لا يرى بالعين المجردة، ولو تساءلت كيف سيحفظ الله موسى من فرعون، فعلمت أن الجواب أن الله سيربيه في قصر فرعون نفسه، بل كيف سيرده إلى أمه بعد أن التقطه فرعون وآله، فإذا به يرد بأبسط سبب، تحريم المراضع عليه من الله، لا بقوة ولا ملائكة ولا بشيء، إلا رفضه التقام ثدي سوى ثدي أمه، أبسط الأسباب.

 ​​​​ وهذا درس لنا لمن يتساءل: كيف سينتصر هذا الدين؟ وكيف سيظهر؟​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها وصف السنين بعددا؟

عدا هنا تفيد معنيين:​​ 

الأول: الكثرة أي:​​ سنين كثيرة العدد.

الثاني: أنها سنين معدودة مقدرة.

والأولى تدل على تمام القدرة، والثانية تدل على تمام الإحاطة والتدبير.

ما مناسبة الآية التي بعدها: ثم بعثناهم لنعلم .. الآية؟

لفظ البعث في الآية يشعرك بموتهم مع أنه لم يموتوا، وإنما ناموا، والنوم موتة صغرى كما قال الله (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)، وكأنها تذكرنا بالموت في كل يوم، فلا عجبا من نومهم ثلاثمئة سنة ونحن ننام في كل يوم ثم نبعث بأمر الله، ننام بأمر الله ونبعث بأمر الله.

أحصى على الراجح أفعل تفضيل، والآية تقول لقارئها المتدبر: لا تثقن في صنع البشر فإنما عندهم ظنون أو علوم بحسب ما يظهر لهم، أما حقائق الأمور فلا يعلمها إلا الله، وأما العلم الحق فليس عند أحد سوى الله (قل لو كان البحر مدادا لكمات ربي .. )،​​ 

ولأجل هذا جاء بعدها مباشرة (نحن نقص عليك نبأهم بالحق).

وهذا المعنى خيط ممتد على طول السورة، أقصد: تفضيل علم الله على علم البشر وعلى علم غيره، ويكفيك ما جاء في آخرها: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، وهذا الخيط الممتد طبيعي حيث بنيت القصة في أساسها على التعالم، حيث قام النصارى أو اليهود باختبار النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم في هذه القضية، فأخبرهم الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بها، وزادهم علما مما لم يسألوا ومما لم يعرفوه.

والحزبين هما قومان اختلفوا في مدة لبثهم، واحد مصيب وواحد مخطئ، فلا يصح وصف الفريقين من الذين وجدوهم بأنهم حزبين، وإنما هو حزب اليهود والمشركين السائلين الممتحنين المشككين، وحزب الله ونبيه صلى الله عليه وسلم.

 

ما مناسبة افتتاح تفصيل حكايتهم بقوله: نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم؟

أما الشق الأول من البداية فهو قوله تعالى: نحن نقص عليك نبأهم بالحق، لأن قوله جل وعلا آنفا لنعلم أي الحزبين​​ أحصى لما لبثوا أمدا، يثير في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم، لأن في نبأهم تخرصات ورجما بالغيب، سواء في أصل وجود القصة أو في تفاصيلها أو في المخبر الذي لا يشك بخبره، فجاءت هذه الجملة (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) لتؤسس الأمر على الحق منذ البداية، وعبر عن​​ ذاته العلية بضمير جمع المذكر للدلالة على العظمة والكبرياء، وقدم الضمير وهو المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي: نحن ولا أحد سوانا نقص عليك نبأهم بالحق.

وأما وصفهم بالإيمان، فلأن الإيمان هو كلمة السر في فتح مغاليق التساؤلات التي تطرأ على قلب القارئ المتدبر:​​ 

كيف وقفوا في وجه الملك؟ وكيف استعلنوا بإيمانهم؟ وكيف ثبتوا عليه؟ وكيف تركوا كل شيء وأووا إلى الكهف؟​​ 

إنه الإيمان (إنهم فتية آمنوا بربهم)​​ 

ولم يذكر الله من صفاتهم إلا آنهم (آمنوا)، لم يذكر لباسهم ولا طعامهم ولا شرابهم ولا أشكالهم ولا ما معهم من مال ولا متاع، خاصة أنه ورد أنهم كانوا من علية القوم في مدينتهم، إلا أن القرآن طوى كل هذه الصفات ولم يذكر سوى إيمانهم، وكفى بالإيمان شرفا وذكرا لصاحبه وبمثل هذه يشرف الإنسان، وبمثل هذا ينبغي أن يحرص على أن يكون له ذكرا، فإن ذكر فلان ذكر إيمانه.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا (وزدناهم هدى)؟

فيه إشارة إلى أن الله قابل إحسانهم بإحسانه، وثقتهم به برعايته، وتوكلهم عليه بعنايته.

وفي الجملة قاعدة ربانية في السلوك البشري: أن الجهد البشري له اعتباره في السنن الإلهية، فهو الخطوة الأولى للفلاح فالله لا يضيع عمل عامل،​​ فمن رام رضوان الله عليه أن يبذل ما في وسعه من الأسباب، وحينئذ يترادف المدد الرباني ويتواصل العون الإلهي والنصوص في هذا كثيرة: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات​​ يهديهم ربهم بإيمانهم) (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه).

ومن دقائق طرائق القرآن أنه ينبه على مثل هذه السنة الكونية الشاملة في جمل بسيطة يتدبرها من فتح الله على قلبه فيعتصر ما فيها من معان وقواعد كلية.

ومن جميل ما قيل في هذه النقطة: أنهم آمنوا بربهم واستعلنوا بإيمانهم، إلا أن هذا الإيمان لم يكن كافيا لمواجهة قومهم، إلا أن الله أمدهم بإيمان يثبتهم فيه بعدها في مواجهة قومهم واعتزالهم.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا (وربطنا على قلوبهم)؟

فيه إشارة إلى أن الثبات من الله وحده، وأن الله هو الذي يربط على القلوب ويثبتها في مثل هذه المواضع الصعبة، فكأن هذه الآية تقول للمؤمنين:

ثباتكم من الله وحده فتوكلوا عليه وحده والجأوا إليه وحده لأن الله هو الذي يربط على​​ قلوبكم.

وذكر الربط هنا دليل على أن ثمة رهقا ومشقة اكتنفت هؤلاء الفتية، وأن ترددا بين الإقدام والإحجام كان حاضرا، ولكن بتوفيق الله وإعانته بعد المجاهدة وصدق الإرادة حصل لهم المراد واعتزلوا هؤلاء القوم.

فهذه النصوص وأخواتها تغرس في فؤاد المسلم، خاصة في وقت الأزمات: أنه ضعيف بنفسه قوي بربه، وأن التوفيق هبة من الله تعالى، وعدم الاغترار بما يحصل عليه العبد من فلاح، ويشعره بمعية الله وقربه مما يسكب في القلب أنسا وفرحا ورضى، يهون على النفس عناء الفتنة وصعوبة الطريق.

وتأمل توقيت الربط بالقيام بين يدي الملك يستعلنون​​ بإيمانهم، لم يذكر الربط حين أويهم إلى الكهف ولا حين ناموا، ولكن ذكر الربط على قلوبهم حين قيامهم بين يدي الملك وأي موقف يستلزم الربط على القلب مثل هذا الموقف الخطير.

 

وهنا ينبغي التنبيه على المقامات الكسبية والوهبية في هذه السورة:

فالمتدبر لهذه القصة يجد مقامات كسبية وأحوال وهبية في تزكية النفس، والمقصود بالمقامات الكسبية: ما يقوم به العبد ويكسبه من أحوال وأفعال، والمقصود بالأحوال الوهبية: ما يهبه الله للعبد جزاء على ما قام به من أعمال وأحوال.​​ 

الحالة الأولى:​​ 

فقوله جل وعلا: إنهم فتية آمنوا بربهم مقام كسبي​​ وقوله: وزدناهم هدى: حال وهبي، فمن آمن بالله وتوجه إليه هدى الله قلبه وأقبل عليه، ومن حقق المقام الأول تحقق له الحال الثاني.

وهذا المعنى كثير في القرآن (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) وقوله جل وعلا (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) وقوله جل وعلا (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل يهديهم إليه صراطا مستقيما) وقوله جل وعلا (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) فالهدياة هي توفيق الله المؤمنين للحق في كل أحوالهم في الدنيا والآخرة.

الحالة الثانية:​​ 

وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا​​ ربنا رب السموات والأرض

فالقيام مقام كسبي، والربط على قلب العبد حال وهبي

ومثل هذا ما ربط الله على قلب أم موسى لما استجاب لأمره بإلقاء موسى في البحر (لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين)

 

الحالة الثالثة:​​ 

مقام الإيواء إلى الكهف بعد الاعتزال وهو كسبي، وتحققت لهم به الرحمة وهو حال وهبي: فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته​​ 

وهذا من مثل قوله تعالى (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا)

ما هي المعاني​​ التي ينتهي إليها قولهم ( ربنا رب السموات والأرض)؟

هذا فيه تعظيم لجناب الركن الذي لجؤوا إليه: وكأنهم يقولون: الذي يقدر على أن يرب السماء والأرض ومن فيهما لا بد سيحفظنا ويربنا أحسن ربوبية.

وقولهم هذا مرتبط بخيط رفيع بقولهم سابقا: ربنا آتنا من لدنك رحمة، فشعورهم بربوبية الله جل وعلا كان حاضرا في كل لحظة من لحظات​​ 

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قولهم: ربنا رب السموات والأرض؟​​ 

فيه إشارة إلى الطريق الذي استدلوا به على الربوبية وهو النظر والتأمل في خلق السموات والأرض، وهي إحدى آيتين أشار إليهما قوله (كانوا من آياتنا عجبا) وهي الآيات المنظورة، وفي هذا توجيه للقارئ المتدبر إلى العناية بالنظر في السموات والأرض، وحث الناس على الإيمان بالنظر في السموات والأرض ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) فتأملهم في خلق السموات والأرض هو الذي قادهم إلى الإيمان.

ومن العجب في قولهم: استدلالهم على الإلهية بالربوبية، ربنا رب السموات والأرض ولأنه رب السموات والأرض لن نتوجه بالعبادة لأحد سواه، وهذا الاستدلال المنطقي في مقابل انعدام الحجة والبيان عند قومهم الذين عبدوا غير الله (لولا يأتون عليهم بسلطان بين).

وتأمل كيف لم يكن للكثرة وزن في موازينهم: فلم يتركوا التوحيد لأجل انحراف قومهم عنه، ولكن كان هديهم اتباع الحق ولو كانوا وحدهم.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها نفي الشرك بلن: لن ندعو من دونه إلها ؟

النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها فهي تفيد استغراق الزمان كل الزمان، فهم أعلنوها صريحة قاطعة أنهم لن يتوجهوا بالعبادة إلى غيره أبدا، لأنه وحده هو المستحق للعبادة.

 

 

ما مناسبة قوله جل وعلا: هؤلاء​​ قومنا اتخذوا من دونه ..؟

تشعر أن هذه الجملة شرح لما خفي في قوله جل وعلا آنفا: لقد قلنا إذا شططا، فالقارئ المتدبر يبحث عن ماهية الشطط الذي قاله هؤلاء القوم، فجاءت هذه الجملة لتشرح الكلام، وانظر إلى توالد المعاني وكيف يبنى الكلام بعضه على بعض.

كما وتشعر أن​​ هذا الكلام متصل بخيط رفيع بقوله تعالى آنفا: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

فالتوحيد وتعبيد الله للناس وحده، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الظلمات إلى النور هو​​ عمود الأمر ومحوره.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ؟

لا يعجب المرء اليوم وهو يرى كيف اعتزل أصحاب الكهف قومهم وهجروا متع الحياة وزينة الدنيا وآووا إلى كهف موحش يستنزلون فيه رحمة ربهم، لا يعجب المرء اليوم وهو​​ يرى كيف ترك موسى عليه السلام كل شيء خلفه ومضى في طريق لا يعلم متى تكون نهايته {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}​​ 

أشد ما يستولي على القلب ويتتابع عليه هو أن أول الطريق كان دوما​​ قطع العلائق، وأنه لا يصح قصد ولا يثمر إلا بتوحيد الوجهة والمضي إليها​​ دون تعلق بشيء مما يتركه الإنسان خلفه أو يعرض له في طريقه، وكذا في الحج الذي هو قصد إلى أشرف البقاع وأعظم المنازل، لا يصح للحاج قصده إلا إذا ترك من خلفه أهله وماله وولده ووطنه، وهجر مألوفاته من العادات، وترك ماحرم عليه من المباحات، وقصد إلى ربه لا يطلب إلا​​ رضاه ولا يرجو إلا قربه، حينئذ يمتليء القلب تعظيما لمطلوبه الأوحد، وإخلاصا لوجهه، وتوحيدا له عقيدة وقولا وعملا، واستسلاما لكل ما أمر به وانقيادا وإخباتا

من الأمور اللافتة للنظر أيضا في قضيتهم أن الله عز وجل لم يذكر شيئا عن الذين قاموا بالتغيير في هذه الثلاثمئة سنة، وإنما سلط الضوء على هؤلاء الفتية الذين (اعتزلوا)، لم يفعلوا شيئا سوى الاعتزال، وجعلها أعلى مناطات البطولة، البطولة ليست دائما شيئا تقدمه في سياق التغيير، عدم مساندة الباطل والوقوف في وجه الملك والاعتزال إن لم تستطع الثبات بطولة ما بعدها بطولة، قطع​​ العلائق التي سبق ذكرها بطولة ما بعدها بطولة، ثباتك سنوات في الكهف مرابطا على ثغر التوحيد بطولة، صمودك وأنت منسي في سرد الأحداث والتاريخ بطولة، عدم تلبسك بأي ظلم في وقت شيوع الظلم بطولة، الفرار من الشرك وأهله والأوي إلى الكهف بطولة، هناك أبطال منسيون كثر في سرد الأحداث ولكن الله يعلمهم، وكان الاعتزال والأوي إلى الكهف هو (الأحسن عملا) في حالة الفتية، بينما كان الأحسن عملا مختلفا في حالة صاحب الجنيتين أو في حال موسى عليه السلام أو في حال ذي القرنين رحمه الله، فكل ميسر لما خلق له وكل حال لها (أحسن عملا) خاصا بها.

ما مناسبة قوله جل وعلا بعدها: وترى الشمس.. الآية؟

هنا انتقال إلى فصل آخر في القصة، وكأن أصحاب الكهف اختفوا من المشهد وصار الحديث عن الله وقدرته، وهذا خيط رفيع متصل بقوله تعالى سابقا في أول الحديث: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم، فكأن قوله هنا وترى الشمس يقول لك: لا تنشغل بأصحاب الكهف وأسمائهم ومكانهم وزمانهم، وانشغل بآيات الله وقدرته، بل صور الله الشمس وكأنها تسبل عليهم أثواب عنايتها ورعايتها، وكأنها في وسط هذا الكون الشاسع تعتني بهم غاية العناية، وتعاملهم دون سائر الموجودات معاملة خاصة تليق بحالهم، وهكذا يسخر الله عز وجل الكون كله لأوليائه، بما يناسب حال كل واحد منهم ولا يعزب عنه.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: ذلك من آيات الله .. الآية؟

قبل أن تكمل الآيات في سرد حيثيات حفظ الله لهؤلاء الفتية، يتوقف السياق لينبهك إلى ما نبهك عليه في أول القصة: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، أن ذلك كله من آيات الله ليؤمن الناس ويهتدوا، لا لمجرد القصص والحكايات، وتأمل كيف كانت النتيجة عكسية: لم يهتد أحد ممن سمع هذه القصة، وتشعر أن الكلام هنا متصل بقوله تعالى في أول السورة: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، فقوله جل وعلا: من يهد الله فهو المهتدي تأكيد لما سبق من النهي عن إهلاك النفس لأجل إسلامهم، وهكذا يظهر المعنى تباعا بثوب جديد ولفظ جديد ولون جديد، ولأجل هذا سمي القرآن بالمثاني تجد المعاني تتكرر فيه مرة بعد مرة في​​ السورة الواحدة، تظهر ثم تختفي ثم تظهر مجددا وهكذا دواليك.

 

ما هي المعاني الت ينتهي إليها ذكر الأسباب التي حفظ الله بها هؤلاء الفتية في كهفهم؟

ذكرت الآيات مجموعة من الأسباب التي حفظ الله بها هؤلاء الفتية:​​ 

  • إيواءهم إلى كهف لا إلى غار، كهف متسع ينالهم فيه النسيم والهواء.

  • ميل الشمس عن أجسادهم فلا تؤذيهم ولا تمتنع عنهم فيتعفنون.

  • تقليبهم ذات اليمين وذات الشمال لئلا تأكلهم الأرض.

  • وجود الكلب باسط ذراعيه بالباب.

  • حسبان الرائي لهم ايقاظا وهم رقود.

  • حراستهم بالرعب ممن يراهم.

وكل هذه الأسباب على عظمها لا تعني شيئا في​​ حفظ نيام مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، فلماذا ذكرها الله مفصلة يا ترى؟

إنها ربط للمسلم بنظام السببية حتى يعلم أهميتها ويراعيها في جميع شؤون حياته كما هي حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ما مناسبة قوله تعالى: من يهد الله فهو المهتد.. الآية، في ثنايا الحديث عن لبثهم في الكهف؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها؟

هذه الجملة في موضعها هذا من النقاط التي ينبغي للقارئ المتدبر أن يتوقف عنها ويتسائل عن المعاني التي ينتهي إليها وجود هذه الجملة في هذا الموضع خارج السياق الذي قبلها وبعدها.

في سورة الكهف وفي سياق الامتنان على​​ أصحاب الكهف وبيان فضائلهم وصفهم الرب عز وجل فقال (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) كأن جزاء إيمانهم وقيامهم به ثابتين في مواجهة المشركين أن زادهم الله هدى وربط على قلوبهم، وفي سياق الآيات التي تبين ولاية الله لهم وهم نائمون في كهفهم (ذلك من آيات الله) وهذا مفهوم إذ أن ما حدث لهم من كرامات كان من قبيل المعجزات والآيات، لكن ثمة جملة مفاجئة (من يهدِ الله فهو المهتدِ ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) فما مناسبتها لهذا الموضع؟

في الكلام عليها مذهبان: الأول: ما قاله الإمام ابن كثير في تفسيره:

(ثُمَّ قَالَ: ﴿مَنْ​​ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ أَيْ: هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ إِلَى الْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ)

هل تعني هذه الإشارة أن الهداية هي النعمة الكبرى والأجل على هؤلاء الفتية؟ وأنها أعظم حتى من نعم الكفاية والوقاية والولاية في الكهف؟ هذا المذهب الأول.

المذهب الثاني: أن الحديث فيمن هو مظنة الهداية بمثل هذه الآيات وغيرها من الآيات الكونية، فهاتان الآيتان​​ آيتان ظاهرتان على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن القرآن هو كتاب الله الحق، فمن أراد الهدى فهذه الآيات الواضحات أمامه.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر حيثيات حفظهم؟

اللافت للنظر في هذه القصة ذكر حيثيات حفظهم حيث قال جل وعلا:​​ 

وتحسبهم أيقاظا وهم رقود: إما لأن عيونهم كانت مفتوحة وإما لكثرة حركتهم.

ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال: أي حتى لا تأكل الأرض أجسادهم.​​ 

وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد: أي بالباب وهذا ثالث سبب من اسباب حفظهم.

لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا: وهذا رابع سبب من أسباب الحفظ حيث حفظهم الله بالرعب، بغض النظر عن سبب هذا الرعب الذي يصيب ناظرهم.

ذكر بعض أهل العلم أن سبب التقليب هو حتى لا تأكلهم الأرض وأنكره بعضهم إذ قالوا أن الله قادر على حفظهم دون تقليب، إلا أن هذا التقليب بل هذه الأسباب الأربعة كلها تلقي في روع القارئ المتدبر​​ أهمية الأخذ بالأسباب وأن الله على الرغم من قدرته جل وعلى على حفظهم دون أدنى سبب، إلا أنه قدر جل وعلا هذه الأسباب في حفظهم تعظيما لأمر الأسباب والأخذ بها بعد التوكل على الله وتمام الاعتماد عليه.

والأخذ بالأسباب واضح ظاهر على طول القصة – بل على طول السورة –​​ من سعيهم في الاختفاء ولجوئهم للكهف، وما قدره الله لهم من أسباب الحفظ، مع تمام الاعتماد والتوكل حين قالوا (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا).

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وكذلك؟

وكذلك معناها: كما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات،​​ وحفظناهم من الطاغوت، وربطنا على قلوبهم، وآويناهم في الكهف وحفظناهم من البلى على طول الزمان، كما فعلنا بهم كل هذا بعثناهم اليوم من نومهم وجعلنا بعثهم آية، وكأن الجملة تنطق قائلة لقارئها المتدبر:

اذكر قدرته على البعث كما قدرته على الحفظ.

ووجه الشبه: أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة والحفظ.

ما معنى اللام في قوله ليتساءلوا؟

قيل أن اللام:​​ 

للسببية: فيكون المعنى بعثناهم ليقع بينهم التساؤل والاختلاف في مدة اللبث لما سيترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور الآيات الباهرة.

أو للصيرورة: فيكون​​ المعنى بعثناهم ليصير حالهم إلى التساؤل.

وكل ما سبق توطئة وتهيئة لقولهم لاحقا (ربكم أعلم بما لبثتم)​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها اجتهادهم في إخفاء أنفسهم باعتزالهم وحيث البعث بالورق؟

القصة تؤكد على معنى مهم وهو: شعور الفتية بأن دينهم وحيواتهم أمانة في أعناقهم وأن عليهم بذل الوسع في حفظها لذلك اجتهدوا في ذلك في موضعين:​​ 

الأول: حين اعتزلوهم فرارا بدينهم ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم رشدا)

الثاني: حين أمروا صاحب النقود منهم أن يتلطف فلا يشعرن بهم أحد (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلنيظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا)

وجاء مثل هذا في مواضع كثير من دعاء الصالحين ( ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) وفي دعاء موسى ( نجني من القوم​​ الظالمين)

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قولهم: إنهم إن يظهروا عليكم ... فور انتباههم؟

لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ومع ذلك فأهم ما يشغل بالهم عند انتباههم من نومهم الطويل هو دينهم، على أساسه يقيمون خسارتهم أو فلاحهم، من أجله اعتزلوا الأهل والأصحاب، من أجله تغربوا عن الأوطان، من أجله زهدوا زينة الدنيا ومتاعها، من أجله آووا إلى كهف ليس فيه من الراحة شيء، من أجله يحذرون ويتلطفون، إنهم على التوحيد ناموا، وعلى التوحيد بعثوا.​​ 

حياة قصيرة عاشها هؤلاء الفتية الذين لا نعرف حتى أسماءهم، لكن التوحيد جعلها على مقياس الزمان مديدة فريدة مذكورة في كتاب يتلى إلى يوم القيامة​​ 

إنه التوحيد، ذاك الذي يمدك بحياة فوق الحياة

 

ما مناسبة تفويض الأمر لله في مدة لبثهم في قوله جل وعلا (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم)؟

هذا على عادتهم في ترك الجدال والبحث عما لا ينفع، خاصة في​​ وقت الشدائد والأزمات، وكثير من الدعاة والشباب ينشغلون في جدالات بيزنطية في وقت يؤتى فيه الإسلام وأهله، والسداد أن يترك الإنسان مثل هذا وينشغل بإقامة الدين وحياطته والقيام به.

ما مناسبة قوله تعالى: فابعثوا أحدكم؟

فيه إشارة إلى أنهم كانوا كلهم سواء يخدم بعضهم بعضا ويقوم بعضهم على شأن بعض.

ما مناسبة ذكر الورق هنا؟

بعضهم قال أن فيها دلالة على أن الورق هو من كشف أمرهم، وقيل: أن الله ذكر هذا الأمر للدلالة على أخذهم بالأسباب، وأنهم لم يتركوا سببا إلا وأخذوا به جريا على ما ذكرنا في عادة القصة في التأكيد على أهمية بذلك الأسباب.

ما مناسبة بحثهم عن: أزكى طعاما؟

أزكى لها معنيين:​​ 

المعنى الأول: أكثر حلالا: فلم ينشغلوا بالبلاء عن تحري أحكام الحلال، وأكثرنا يشغله المرض عن الصلاة، والعمل عن حضور الجماعات، والفقر والشدة عن الاجتهاد في العبادة، فتأمل حالهم في الكهف يتحرون الحلال الطيب، وتأمل حالنا ونحن مستهلكون بمشاكلنا.

المعنى الثاني: أيها أطيب: فهم تكيفوا مع البلاء ومع الشدة، واجتهدوا فيما هو أطيب أيا كان.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر التلطف ههنا؟

ضرورة العناية بالتلطف في حال الاستضعاف خاصة، وهذا فهم الحياة كما ينبغي.​​ 

 

ما مناسبة ذكر اتخاذ المسجد عليهم؟

الأغلب أنه ذكر للذم، وغالبا ما يأتي فعل الاتخاذ في الذم (اتخذوا من دونه آلهة)، والسنة واضحة في مثل هذا الشأن في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، والواقع يؤكد أن من شرع مثل هذا الأمر يعلم الغيب، ويعلم أن الناس سينصرفون​​ إلى التعلق بصاحب القبر والمقام ولأجل ذلك حرم اتخاذ المساجد على القبور كما جاءت به السنة الصحيحة.

والمتأمل في السياق يجد أن هناك قضيتين ذمتا في تناول الأحداث: الانشغال بالعدد، واتخاذ المساجد على القبور.

وفي النهي هذا خيط متصل بقوله جل وعلا في أول القصة (أم​​ حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) وكأن هذه الآية كانت حماية وحرزا وحصنا من الوقوع في قضية تعظيم الصالحين استغرابا لأحوالهم ودرهم وقاية من الإعجاب المبالغ فيه بأمرهم.

وذكر بناء المساجد على القبور في هذه السورة خاصة في غاية المناسبة، فإن التوحيد معلم بارز من معالم السورة ممتد على طولها من أولها (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) إلى آخرها (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)، ومحبة الصالحين تنزع من العبد المؤمن المناعة ضد الشرك، فكثير ممن يأنف من عبادة الأصنام مثلا، لا تجد لديه المناعة التوحيدية الكافية​​ ضد عبادة الأشخاص، فينساق وراءها وهذا مدخل مهم من مداخل الشيطان ولأجل ذلك نبه عليه القرآن تنبيها واضحا.

وتعريف القائمن ببناء المسجد بكونهم (غلبوا على أمرهم) تحذير للمسلمين من التمكين لمثل هؤلاء من المبتدعة الذين إن تمكنوا مع الجهل الذي هم فيه، درست بهم أصول الدين وتسللت البدع والأخطاء إلى قلوب الناس وفرضوها عليهم فرضا لما لهم من الغلبة والتمكن.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها النهي عن البحث عن عددهم؟

قوله جل وعلا: ولا تستفت فيهم منهم: أي من أهل الكتاب، أي لا تسأل أهل الكتاب عنهم في شيء، والنهي في البحث عن​​ عددهم ينتهي إلى عدة معان:​​ 

منها: أن أهل الكتاب ليس عندهم كتاب مضبوط، وإنما هي كتب محرفة عمادها الظن، ولأجل ذلك اختلفوا، ولأجل ذلك رد الله العلم كله إليه جل وعلا.

ومنها: النهي عن سؤال من ليس أهلا للسؤال، وليس عنده علم يقين يضبط به المسائل.

ومنها: النهي عن​​ الجدل والخوض فيما لا يملك الإنسان فيه علما قطعيا.

ومنها: النهي عن الجدل فيما لا ينفع، ولفت النظر إلى ما ينفع الإنسان من الأمور، والحياة قصيرة لا تصلح للقيل والقال، وإنما تصلح للعلم والعمل.

 

ما مناسبة النهي عن ترك الاستثناء هنا؟

الكلام هنا توجيه من الله عز​​ وجل لنبيه ألا يترك الاستثناء بعد أن سأله المشركون فوعدهم بالجواب من الغد ولم يقل إن شاء الله، فتأخر جبريل بالجواب ما شاء الله، ثم أتاه فكان تأخير الوحي عتابا رمزيا من الله لرسوله كما عاتب سليمان عليه السلام فيما رواه البخاري: «أن سليمان قال: لأطوفن الليلة​​ على مائة امرأة تلد كل واحدة ولدا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شق غلام»، ثم كان هذا عتابا صريحا فإن رسول الله ﷺ لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول إن شاء الله كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يعد​​ بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله.

ولم يأت هذا العتاب إلا بعد أن أجاب الله سؤاله استئناسا لنفسه وتطييبا لخاطره لعلو قدره عند ربه صلى الله عليه وسلم.

ما معنى: هذا في قوله: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا؟

لها ثلاثة معان:​​ 

الأول: هذا أي المنسي، حتى تعلم أنك عبد وتترك التوكل على نفسك

الثاني: قصة أصحاب الكهف: أي يعطيني قصصا أحسن منها، وآيات خير منها حتى تعلموا نبوتي وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم والحوادث النازلة في المستقبل إلى قيام الساعة ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرد من خبر​​ أصحاب الكهف.

الثالث: هذا أي هدايتهم: أي سيهديني هدى أقرب من هداهم، وقد كان هذا وفتحت له الآفاق.

على من يعود الضمير في قوله جل وعلا: ما لهم من دونه من ولي؟

قيل فيه ثلاثة أقوال:​​ 

الأول: أنها لأهل السموات والأرض باعتبار أن اللفظ للعموم

الثاني: أنه لأهل الكهف

الثالث: أنه لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار.

ومعنى الولي: أي ناصر ينصرهم أو يتولى أمورهم في بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها لبث الفتية كل هذه المدة الطويلة؟

من أشق الابتلاءات التي يعانيها المؤمن في حياته تطاول​​ الزمن قبل تحقق ما يرجوه من نصر حق وهزيمة باطل أو إجابة دعوة أو تفريج كرب، والمتأمل في كتاب الله عز وجل يجد أنه كثيرا ما يؤمر المؤمنون بالصبر حتى يأتي وعد الله وبالانتظار حتى يكون الفتح والنصر لا سيما عند اشتداد وطأة الظلم والعدوان على المسلمين وانعدام أسباب تغير هذا الحال حيث لا أفق تظهر فيه بادرة أمل أو بشائر نصر

في سورة الكهف نجد هذا الابتلاء أوضح ما يكون، فالفتية ينامون أكثر من ثلاثمائة عام في الكهف دون أن يشعر بهم أحد، ثلاثمائة عام تغير فيها وجه الأرض وتبدلت أحوال الخلق وتهيأوا تماما لاستقبال هذه الآية​​ العظيمة، ثلاثمائة عام لم يبق لهم بعدها حبيبا ولا صديقا ولم يبق بعدها إنسان يعرف وجوه هؤلاء الفتية، كم مرة تجاوزنا هذا الزمن دون أن نتأمله ونتخيل آثاره على الفتية والناس؟! كم مرة تجاوزناه ولم نتفكر في امتداده ومعناه؟! لقد تطلب الأمر ثلاثمائة عام وزيادة حتى​​ أصبح البلاد والعباد مستحقين لظهور هذه الآية ومهيأين لفهم العبرة من ورائها، نعم هناك آية عظيمة لكن لم تظهر عظمتها حقا للناس إلا في إطار زمني معين، إن آفة طريقة حياتنا الحديثة هي الاستعجال، لم نعد قادرين على الانتظار ولا الصبر، إننا نرغب في أن تحدث لنا المعجزات الآن والآن فقط أما بعد ذلك بدقيقة فقد صار في جدوى المعجزة شك وريبة​​ 

إذن لابد من زمن يمر ولا بد من صبر على ذلك فما الذي يزودنا بالصبر أثناء هذا الانتظار؟!

والذي يظهر والله أعلم ​​ أنهما معنيان ذكرا كذلك في سورة الكهف، المعنى الأول في قصة موسى عليه السلام​​ مع العبد الصالح إذ يتساءل سؤالا مركزيا في القصة (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) وعلى طول القصة سنتعلم معا أن ابتلاءات الحياة الدنيا ليست فقط في بعض حوادثها المؤلمة ومدى ثقلها على النفس لكنها أيضا في ابتلاء البشر بعدم فهم الحكمة من وراء ذلك في كثير من الأحيان وابتلاءهم كذلك بطول الزمن اللازم حتى يتكشف لهم طرف من هذه الحكمة والرحمة الكامنة فيها، من هنا نفهم من جديد عمق الابتلاء في خرق السفينة والذي لا تنكشف حكمته إلا عند مرورها بالملك الغاصب بعد حين، وأيضا في قتل الغلام الذي سيبدل والداه خير منه زكاة وأقرب​​ رحما ولكن ليس ثمة أفق زمني في القصة لهذا الإبدال وعليه فإن الوالدين مبتلين بزمن يفصل بين فقد ولد وبين الفوز بولد خير منه ، وأيضا في جدار اليتيمين الذي لن تتم الحكمة من إقامته إلا حين يكبران ويعثران على الكنز، إذن في القصص الثلاثة هناك زمن طال أو قصر لابد​​ أن يمر قبل أن تتم أركان القصة ويفهم تأويلها في سياق الحكمة والرحمة الربانية، ولذلك فإننا إذ نعود للسؤال الأول (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) فلا نجد إجابة أوفى من أن اليقين وحده هو الوسيلة، اليقين في حكمة الله ورحمته وفي أن قضاءه كله خير وأن اختياره لنا​​ خير من اختيارنا لأنفسنا​​ 

المعنى الثاني في قصة ذي القرنين حين يتم بناء السد الذي يحمي به الناس من شر يأجوج ومأجوج لكن المفارقة أن هذا السد له عمر ينقض بعده ويُجعل دكاء، إن زمن انهدامه مرهون بقيام الساعة (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان​​ وعد ربي حقا)​​ 

إذن حتى لو يتم التأويل في الدنيا فإن في الآخرة تأويل كل شيء (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق)​​ 

هناك مظالم لن يفصل فيها في الدنيا، هناك حوادث في حياتنا وابتلاءات ربما لا نفهم الحكمة والرحمة​​ فيها إلا في الآخرة، وعلى ذلك فنحن مطالبون هاهنا بقدرة أوسع على الصبر لأن الزمن اللازم له صار أطول حتى من أعمارنا (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)​​ 

إن المعنى الثاني هو اليقين أيضا، لكنه اليقين في اليوم الآخر وأنه يوم الفصل ويوم الحساب الذي لا يتخلف عنه أحد ولا يظلم فيه أحد​​ 

وبعد،

فكما رأينا كان إحساس الإنسان بالزمن وتعامله معه جزء من ابتلائه في هذه الحياة، لأن نظرته القاصرة إلى مرور الزمن واستعجاله تشعره بالبعد عما يريد تحققه وتؤيسه منه، ولو أنه نظر له كما علمه ربه واستوعب في نظرته تلك أزمان الدنيا والآخرة وأدرك قصر عمر الدنيا مهما طالت مقارنة بخلود الآخرة الأبدي لانتظر وصبر وهدأ باله وسكنت نفسه​​ 

(إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا)​​ 

ربما علينا فقط أن نغير زاوية النظر، ألا نراه من جهة ضعفنا وجهلنا وقصر عمرنا، بل من جهة قدرة​​ الله وعلمه المحيط بكل شيء وعدله ورحمته وبقاء وجه ربك بعد أن يفنى كل شيء (كل من عليها فان() ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)​​ 

حينما ننظر إلى الزمن موقنين بحكمة ربنا ورحمته واثقين في عدله يوم الحساب سيمكننا أن نصبر ونرضى مهما طال الزمن وتباعدت منا الآمال وأحاط بنا اليأس​​ 

ومن المعاني المختبئة وراء هذه المدة الطويلة: بيان أن الناس لا يتغيرون بسرعة، وأن حركة الأمم أبطأ من حركة الناس فكل عقد في حياة الأمة يكاد يساوي سنة في زمان الناس، ولذلك لزم تغيير أهل هذه القرية ثلاثين عقدا من الزمن حتى يؤمنوا، وهذا يصبر الدعاة على دعوتهم، وأن النتائج ليست لهم وإنما هي لله.

 

وفي ختام القصة خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديَنِ ربي لأقرب من هذا رشدا)​​ 

يقول الشيخ السعدي في تفسيره:

(﴿عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ فأمره​​ أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره)​​ 

من هنا نفهم من جديد لماذا كان أعظم مطلوب لنا في كل ركعة من كل صلاة هو الهداية (اهدنا الصراط المستقيم)، ومن هنا نقرأ من جديد بقلب ثُورت فيه المعاني حتى ترسخت:

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )

(یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَ​​ نَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَیُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَىٰ صِرَ​​ طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

ولو قلنا أن المناسبة ههنا أن المناسبة هي التأكيد على أن من لم يهتد بآيات الله سواء كانت الأعجب من خلق الخلق أو القرآن، أو الأقل عجبا من مثل قصة أصحاب الكهف وحيثيات حفظهم، لم ينفعه هدى​​ بعد ذلك، فما سبق ذكره من حفظ الله لهؤلاء الفتية من آيات الله، وسبق التنبيه في أول القصة إلى آيات هي أعجب من هذه الآية، فمن لم يكتف بكل هذا ويفتح الله قلبه للإيمان فلن يهتدي أبدا، وتشعر أن بين هذه الآية وبين قوله جل وعلا في أول السورة (فلعلك باخع نفسك على​​ آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) خيطا رفيعا متصلا ببعضه.

 

 

ما مناسبة ختام الحديث عنهم بقوله جل وعلا: قل الله أعلم بما لبثوا ..؟

لا شك أن هناك معاني قد تنسى في الطريق، وقد ينشغل الداعية بالأذى والبلاء وتدبر أمره فيغفل عن استحضار معاني عظمة الله وشأنه في خلقه وكونه، فتأتي مثل هذه الآيات لتعيدك إلى هذه الفكرة المحورية: علم الله واطلاعه على الغيوب، وبصره وسمعه بما في كونه، وضرورة توليه، وتوحيده ختاما.

وقوله جل وعلا (قل الله أعلم بما لبثوا) فيه خيط رفيع متصل بقوله جل وعلا آنفا (قل ربي أعلم بعدتهم) وقوله (ربهم أعلم بهم) وقوله (ربكم أعلم بما لبثتم)

فإن كان قوله جل وعلا آنفا إخبارا عن مدة لبثهم فيكون معنى الكلام هنا: قطع المماراة في مدة لبثهم المختلف فيها فالله أعلم منكم وقد أخبركم بمدة لبثكم على الصحيح.​​ 

وإن كان قوله حكاية عن قول أهل العلم في مدة لبثهم كان قوله هنا: تفويضا إلى الله في علم ذلك، أي دعك من هذه التخرصات فالله أعلم بما لبثوا ومثل هذا قوله قبل ذلك (قل ربي أعلم بعدتهم).

 

 

ما مناسبة قوله جل وعلا بعد ذلك: واتل ما أوحي إليك ​​ .. الآيتين؟

القرآن لا يكاد يعرف لمشكلة أو يحذر من أمر إلا ويتبعه ببيان علاج هذه​​ المشكلة أو الطريق المؤدي إلى الخلاص من هذا الأمر، وهذا ههنا.

هذه الآيات في غاية الأهمية لأنها تصف العلاج للفتنة الواردة في القصة، فتنة الدين، وقد ذكرت الآيتين علاجين لهذه الفتنة:​​ 

الأول: تلاوة القرآن، والتلاوة هنا هي الاتباع، والمعنى: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها وتصديق أخباره وامتثال أمره ونهيه.

الثاني: الصحبة الصالحة، وجاء الأمر بالصبر هنا على طريق الحق وصحبة الصالحين، لأن النفس تركن إلى الراحة وتخطف عينيها زينة الدنيا ويعجبها الكسل ولو تركت لهواها لاتبعت متعتها ولذتها ولغفلت وضلت وانفرط أمرها.

 

يعتقد كثير منا أن الصبر إنما يكون على البلايا والمحن فقط، ويغيب عنه أن أعلى أنواع الصبر وأجلها هو الصبر على الطاعة ومشقة التكاليف ومجاهدة النفس على الثبات والمداومة رغم إغراءات الدنيا ومشاغلها، فعبادة الله وطاعته ولزوم طريق الحق وصحبة الصالحين تحتاج​​ إلى صبر ومجاهدة، فلا يغرنك ما يروجه البعض عن أنك لابد أن تجد المتعة فيما تفعله وإلا فلا تفعله، فإن معالي الأمور كلها مرهونة بجلد المرء وقوة تحمله وعزيمته وتوفيق الله له وذلك لأنها كلها تتطلب بذلا وجهدا وإنفاقا وتضحية:

لولا المشقة ساد الناس كلهم  ​​ ​​ ​​​​ الجود​​ يُفقر والإقدام قتال

​​ قال محمد بن أبي حاتم وراق الإمام البخاري وكاتبه: (أملى يومًا عليَّ حديثًا كثيرًا، فخاف ملالي، فقال: طِبْ نفسًا؛ فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)

فانظر​​ كيف فطن الإمام البخاري لطبيعة النفس وخاف ملل كاتبه فأراد تسليته وتثبيته وتذكيره بما هو فيه من فضل ونعمة وما أعد له من أجر، فذكره أنه وإن حُبس عن اللهو والتجارة فهو في صحبة أشرف خلق الله ورفقتهم وفي هذا الكفاية والغنى.

كل ما سبق من وجهة نظر ربط الكلام بسياق قصة أصحاب الكهف.

ولو أننا ربطنا الكلام ههنا بسبب النزول لظهر لنا معنى آخر، وهو:​​ 

أن هؤلاء القوم حين أتوا يسألون النبي صلى الله طلبوا منه أن يغادر بعض المؤمنين المجلس كونهم ليسوا من علية القوم، فجاءت هذه الآية تنهاه صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، وهذا متصل بقوله في أول السورة (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)

 

ما مناسبة قوله جل وعلا: لا مبدل لكلماته؟

الإنسان قد يخاف من المراهنة على شيء ما أو فكرة ما ويضع عمره كله فيها، أن تتبدل هذه الفكرة أو تتغير أو أن يظهر له أن هذه الفكرة لا تساوي عمره الذي رهنه لأجلها، فهذه الكلمة ترد على هذه الفكرة الشيطانية، فالمؤمن واثق بأن هذا القرآن لا يتبدل ولا يتغير​​ 

 

ما مناسبة ذكر أوصاف الذين أمر الله بصبر النفس معهم؟

من المعاني المهمة في هذه الآيات أن الله وصف الذين يريد أن تحبس معهم نفسك، فأتى على ذكرهم بالاسم الموصول (الذين) ثم ذكر صفاتا لهم:​​ 

يدعون ربهم بالغداة والعشي: فأهم ما يتمثل بهؤلاء الذين ينبغي لك أن تحبس نفسك معهم، هم الذين يدعونك إلى الله، ويوجهونك له.​​ 

يريدون وجهه:​​ 

حتى لو كان هؤلاء أقل من غيرهم في أمور: قد لا تكون صحبتهم ممتعة، وقد لا يكونون من أصحاب الحسب والنسب، وقد لا يكونون

وهذا فيه توجيه العناية إلى أوصافهم لا إلى أشخاصهم، وهذه سمة بارزة في هذه السورة، التركيز على الأفعال لا على الأشخاص.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا؟

﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةࣰ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا﴾ [الكهف ٧]

تقرير يكشف حقيقة هذه الحياة وطبيعتها الفانية، كل ما على هذه الأرض مما يبتهج له القلب وتشتهيه النفس جعله الله زينة لها فتنة واختبارا (لنبلوهم أيهم أحسن عملا)​​ 

من​​ ضمن الابتلاء أصلا أن يزين متاع الدنيا للإنسان فيشتهيه ويطلبه ثم يحزن إن فقده أو لم يدركه، ولو لم يكن مزينا له ولو لم يكن في قلبه رغبة فيه وطلب له لما كان للابتلاء معنى

 

من أجل ذلك يأتي التحذير ثانية في السورة:

﴿وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِیدُ زِینَةَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا﴾ [الكهف ٢٨]

لن يتم صبرك على​​ طاعة الله مع صحبة صالحة إلا إذا قصرت عينك عليهم فلم تمدها إلى زينة الحياة الدنيا تتتبعها عند غيرك فينفرط القلب وراءها رغبة وحسرة، لن يتم صبرك ويُجمع عليك أمرك إلا إذا قرت عينك مع من يطيع الله، وإن قرار العين لهو علامة قرار القلب وجمعيته وسكونه​​ 

ثم ينضبط الميزان لتتقرر عند التعارض الأولويات ويعرف المرء ما يجب أن يُؤثِر حقا، وما يحتمل أن يأخذ منه إن شاء أو يدع:​​ 

﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا﴾ [الكهف ٤٦]

فالمال والبنون حقا زينة الحياة الدنيا، لكن هذا ليس مبررا للانشغال بهما طول الوقت ولا لحصر السعي في تحصيلهما، لأن ثمة ما هو خير عند ربك ثوابا وخير أملا، يا الله! كم يؤمِّل المرء في ماله وولده! كم يخلقان في قلبه أحلاما كبارا وآمالا حلوة تزدان بها الحياة وتمتد وتتسع! ثم رغم ذلك (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا)​​ 

إذ أنَّى يقارن أمل الدنيا الفانية بأمل الآخرة الباقية وأنّى يقارن الأمل المحتمل المحدود بالأمل الممتد بلا حدود؟!

 

 

ما مناسبة اختتام الحديث عن المنجيات من الفتن بالنهي عن اتباع من أغفل الله قلبه عن ذكره؟

شأن عجيب أعطي لذكر الله في سورة الكهف، شأن عجيب جعله أساسا في بداية السورة ونهايتها، وجعل النسيان والغفلة أمرين محذورين على طول السورة.

فأما في بداية السورة وتعقيبا على قصة أصحاب الكهف يتوجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

(ولا تقولن​​ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدينِ ربي لأقرب من هذا رشدا)​​ 

ورد أن سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله اليهود عن قصة أصحاب الكهف أجابهم أنه سيخبرهم بها غدا ولم يستثن أي لم يذكر المشيئة (إن شاء​​ الله) فمكث مدة لا يوحى إليه شيء في شأنهم ثم نزلت هذه الآيات وهذا التوجيه، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإنني أستشعر في الآية ملاذا دائما لكل مسلم وسط مشاغله اليومية التي قد تنسيه ذكر ربه وتوقعه في الغفلة فكأنها طمأنة لنا أن هذا النسيان واقع لا محالة فلا تحزنوا لذلك، وإنما عليكم أن تسارعوا إلى الذكر كلما نسيتم وأن تستدركوا ما فاتكم وترجوا بلوغ الهداية والرشد أيا كانت عوائق الطريق.

ثم يتأكد هذا المعنى في الآية العظيمة:

(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)

وكأن الغفلة عن الذكر​​ والتمادي فيها يؤديان لا محالة إلى اتباع الهوى وانفراط أمر الإنسان وتشتت عزمه عن الطاعة.

ثم في وسط السورة تقريبا وقبيل قصة موسى عليه السلام يأتي وصف الظلم الأشد مقترنا بمن نسي ما قدمت يداه بل أعرض عن آيات ربه بعدما ذُكِّر بها: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه)​​ 

فهنا شخص لم ينس فقط بل أصر على نسيانه حتى بعدما ذكر بآيات ربه، ولذلك كان ظلمه أشد الظلم.

 

وفي قصة موسى عليه السلام تجلٍّ عجيب للنسيان، فالشيطان يُنسي فتى موسى أمر الحوت وقد كان علامة بلوغه مجمع البحرين ولقاء العبد الصالح، فيمضيان حتى يطلب موسى عليه السلام الغداء فيتذكر الفتى ما حدث ويرجعان لمجمع البحرين (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)​​ 

هل نسي يوشع بن نون عليه السلام أم أنساه الشيطان؟ أم أن النسيان مركب من هذين معا: نسيان النفس كجزء من ضعفها وسعي الشيطان حثيثا لتقوية هذا النسيان واستغلاله لإغفال الإنسان عن مراد الله منه فإذا غفل سهل إغواؤه له؟!

الغريب أنه في ثنايا القصة نفسها يتكرر النسيان من موسى عليه السلام في كل موقف يجد نفسه فيه أمام فعل لا يفهم الحكمة من وقوعه بل يستنكر وقوعه أصلا فيعتذر:

(قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا)​​ 

ويتكرر النسيان ثلاث مرات حتى يفترقا.

هذا الارتباط بين النسيان وبين حرمان الإنسان من العلم وتأخره عن تحصيله وعجزه عن الاستزادة منه جدير بالتأمل.

ثم في نهاية السورة وفي وصف لمشاهد يوم القيامة​​ وعذاب الكافرين يأتي هذا الوصف الكاشف لهم:

(الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا)​​ 

لقد كانوا غافلين تماما عن ذكر الله لدرجة أن أعينهم كأنما وضعت في غطاء يحجبهم عنه، ومن ثم كان جزاؤهم أن تعرض جهنم لهم عرضا فيبصرونها متذكرين ما اقترفوا.

 

ما مناسبة قوله جل وعلا بعد ذكر أمر الفتية: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. ) الآيات؟

المتأمل في سورة الكهف يرى ارتباطا وثيقا بينها وبين الآخرة والساعة، فأولها عصمة من الدجال وهو من علامات الساعة، وجاء ذكر الساعة والآخرة في أول السورة وفي​​ آخرها، وأتبعت أول قصتين بذكر الساعة وانتهت قصة ذو القرنين بذكر الساعة أيضا، باعتبار خروج يأجوج ومأجوج وانهيار السد الذي بناه من علامات الساعة الكبرى.

ناهيك عن تقليله من شأن الدنيا ووصفها بالزينة على طول السورة، في تأكيد واضح على انقطاع الدنيا وبقاء الآخرة، وكل هذه المعاني تنبع من قوله جل وعلا في أول السورة: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا.

هذه الكثافة العالية والحضور الواضح في الحديث عن الآخرة ينتهي إلى معنى مناسب لمقصد السورة خادم له، ودليل على أن​​ معنى الآخرة والحساب ثقيل جدا (النجاة من الفتن)، فكأن هذا الحضور الكثيف يقول لك:​​ 

استحضر الآخرة دائما في تعاملك مع الفتن ليهون عليك أمر هذه الفتنة ولا تلفت معها، وأبق عينك دائما على الآخرة لتنجو من هذه الفتن.

 

وفي سورة الكهف أيضا أمر عجيب في عرض أحوال الناس​​ المتضادة في الدارين كأنما تحثنا على المقارنة بينها والاختيار، ومعلوم أن المقابلة والمقارنة بين الأحوال تزيدها توضيحا وتُقوِّي أثرها في النفس، وقد رصدت أكثر من مثال، لكني أختار واحدا فقط لنتحدث عنه اليوم:

​​ لو توقفنا عند قوله تعالى:

{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ​​ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِیدُ زِینَةَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا}​​ 

فالآية فيها دعوة إلى الصبر على صحبة الصالحين مهما كان في ذلك مشقة وبعد عن اللهو والزينة وجهاد للنفس، وفيها أيضا تحذير من صحبة أهل الغفلة واتباع الهوى مهما بدت أحوالهم مزخرفة سعيدة ومريحة.​​ 

وهذا كله في الدنيا، أما العجيب فهو أن الآية يتبعها توضيح لأحوال الفريقين في الآخرة، فإذا بالحال ينقلب تماما، والذين اتبعوا زينة الدنيا صاروا في عذاب جهنم أشقياء مهانين، وأذلاء محرومين من كل راحة فضلا عن الزينة :{إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِینَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن یَسۡتَغِیثُوا۟ یُغَاثُوا۟ بِمَاۤءࣲ كَٱلۡمُهۡلِ یَشۡوِی ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاۤءَتۡ مُرۡتَفَقًا} والذين صبروا وآمنوا وعملوا الصالحات صاروا هم السعداء المُنعَّمين، والزينة التي صبروا عنها في الدنيا وحرصوا ألا تشغلهم عن عبادة الله وطاعته تمتعوا بها في الآخرة أضعافا مضاعفة: {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ یُحَلَّوۡنَ فِیهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبࣲ وَیَلۡبَسُونَ ثِیَابًا خُضۡرࣰا مِّن سُندُسࣲ وَإِسۡتَبۡرَقࣲ مُّتَّكِـِٔینَ فِیهَا عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقࣰا}

 

هذا التقابل بين أحوال الفريقين في الدنيا والآخرة يعطينا نظرة شاملة واسعة لمآلات الأمور وعواقب اختياراتنا في الحياة، هذه النظرة القرآنية _لو جازت التسمية_ نظرة لا تقف عند الدنيا أبدا بل تتجاوزها حتى تصل إلى الآخرة فتضعك في قلب مشاهدها وأحوالها كأنك تراها رأي العين، فإذا اخترت بعد ذلك كان اختيارك مبنيا على أساس صحيح قوي متين غير قاصر ولا هش ولا ضعيف.

وأظن أن هذا هو الفرق الكبير بين من يرتدي النظارة القرآنية عند تحديد أولوياته واختياراته في الحياة، وبين من ينظر تحت قدميه ولا يرى سوى الدنيا ميدانا للتنافس والتكاثر والتفاخر.

وبداية الكلام بأمر الله عز وجل لنبيه بأن يقول للكفار ما سيأتي من كلام، متبوعا بلغة صارمة جازمة فيه رسالة إلى الكفار: أني سأصارحكم بأنني لن أعدل عن الحق الذي جاءني من الله، وأني مبلغكم إياه بدون هوادة، وأني لا أرغب بإيمانكم ببعضه دون بعض،​​ وأني لن أتنازل إلى مشاطرتكم في رغباتكم بشطر الحق الذي جئت به، وأن إيمانكم وكفركم موكول إلى أنفسكم، ولن تستنزلوني عن شيء ما جاءني بوعدكم لي بالإيمان.

وقوله جل وعلا: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر تسوية مكنى بها عن الوعد والوعيد، ودليل ذلك ما جاء بعده مباشرة​​ مجيبا على سؤال: فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر، فجاء الكلام هنا في بيان أحوالهم، وأن التخيير ليس لمطلق التسوية وأنها تسوية متضمنة للتهديد.

وقدم الإيمان لأن الهدف من سوق الكلام هو إيمانهم، وهدايتهم، وهو الهدف من إنزال القرآن.

 

 

 

 

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved