فتنة التمكين في قصة ذي القرنين

(فتنة التمكين في الأرض)

( قصة ذي القرنين)

 

​​ وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ﴿٨٣﴾ إِنَّا​​ مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡء سَبَبا ﴿٨٤﴾ فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ﴿٨٥﴾ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَة وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡماۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنا ﴿٨٦﴾ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابا نُّكۡرا ﴿٨٧﴾ وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا​​ يُسۡرا ﴿٨٨﴾ ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ﴿٨٩﴾ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡم لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرا ﴿٩٠﴾ كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرا ﴿٩١﴾ ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ﴿٩٢﴾ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡما لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلا ﴿٩٣﴾ قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّا ﴿٩٤﴾ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ​​ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا ﴿٩٥﴾ ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارا قَالَ​​ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرا ﴿٩٦﴾ فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبا ﴿٩٧﴾ قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ​​ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّا ﴿٩٨﴾

ما هو موضوع هذا الفصل،​​ وما مناسبته لما قبله؟ وما مناسبته لمقصد السورة؟

تتوالى قصتا موسى عليه السلام مع العبد الصالح وقصة ذي القرنين في نهاية سورة الكهف دون فاصل بينهما، وهذا عجيب، إذ أننا ننتقل بسلاسة مدهشة من {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} إلى {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ سَبَبࣰا ۝فَأَتۡبَعَ سَبَبًا}​​ 

هذا الانتقال السلس بين قصتين إحداهما تقوم أساسا على معنى التسليم المطلق لأقدار الله حتى لو لم نفهم الحكمة منها، والأخرى تقوم أساسا على معنى الأخذ بالأسباب واتباعها يشعرنا بأنهما متداخلتان وليستا منفصلتين كما يبدو لنا، متداخلتان ليس فقط في السياق السردي لسورة الكهف، ولكن في سياق السردية الكبرى للبشرية كلها كذلك، وكأنه بشكل ما هذا ما يجب أن تكون عليه حياتنا طول الوقت: تداخل مستمر وتلازم بين التسليم المطلق لأقدار الله وبين بذل الوسع واستفراغ​​ الجهد في اتباع الأسباب التي مُكنا فيها​​ 

 

وفي ظل ما يصيب المسلمين اليوم من آلام ومخاضات، يبدو هذا التداخل ظاهرا جليا، فبينما كان مطلوبا أمام ذهول القلب لهول الفجيعة وخفاء الحكمة أن يتذكر قول موسى عليه السلام {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} وأن​​ يترسخ فيه أن كل ما حدث وسيحدث {رحمة من ربك وما فعلته عن أمري} فحال العبد مع أقدار ربه حال رضا وتسليم واعتراف بحكمته سبحانه وتعالى ورحمته في كل ما قضى له وقدر عليه، وبينما لا يكاد يبصر المرء سببا يفسر له تلك الأهوال فإنه يعتصم برب الأسباب وخالقها موقنا أنه​​ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير​​ 

هنا تتذكر قصة ذي القرنين رحمه الله وقد مكن الله له في الأرض، وكأن كل ما سبق من تسليم وتفويض وسعي في طلب العلم بالله، وانطلاق في سبيله كان مقدمات لهذا التمكين.

ليس هذا فحسب بل يظهر ذو القرنين ههنا وهو يسارع إلى تأمين مخاوف قوم​​ مجهولين وحمايتهم من المفسدين {قال ما مكني فيه ربي خير} فيبذل علمه وقوته مستعملا أقصى حدود التمكين في نفع الناس {ءَاتُونِی زُبَرَ ٱلۡحَدِیدِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا سَاوَىٰ بَیۡنَ ٱلصَّدَفَیۡنِ قَالَ ٱنفُخُوا۟ۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارࣰا قَالَ ءَاتُونِیۤ أُفۡرِغۡ عَلَیۡهِ قِطۡرࣰا } ​​ 

ثم يختم بهذه العبارة التي تمثل خلاصة ما نسعى إلى فهمه اليوم ﴿قَالَ هَـٰذَا رَحۡمَةࣱ مِّن رَّبِّیۖ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ رَبِّی جَعَلَهُۥ دَكَّاۤءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّی حَقࣰّا﴾

تسليم مطلق لأمر الله واعتراف بقدرته التي لا يحدها شيء مع بذل وسعي فيما مُكّنا فيه وهُيئنا له، وكم يكون هذا التمازج والتوازن نادر المثال عزيز المنال!

وقصة ذي القرنين في العموم تشمل أمما مختلفة:​​ 

أولها: الأمة القوية الكافرة الجائرة​​ 

الثانية: الأمة المتخلفة مدنيا أو المنسيقة والفقيرة الجاهلة فكريا​​ 

الثالثة: الأمة القوة ماديا لكنها متخلفة عاجزة حضاريا مقهورة مغلوبة عسكريا.

ما مناسبة الفصل بين حتى وما قبلها في هذه القصة، في مقابل الوصل بين حتى وما قبلها في القصة السابقة؟

المتأمل في هذه القصة يرى فصلا في هذه القصة بين حتى وما قبلها:​​ 

فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب​​ الشمس

ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس

ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين

أما في قصة موسى والخضر عليه السلام فقد كان الجمل تتصل:​​ 

فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة​​ 

فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما

فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية​​ 

وهذا ظاهر فإن ذي القرنين​​ كان يتحرك بحسب اجتهاده، وأما الخضر فكان يتحرك بأمر الله، فكانت حركة ذو القرنين متأخرة بخلاف حركة الخضر فكانت عجلى لأنها كانت بأمر الله.​​ 

 

من هو ذو القرنين على الراجح؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها إغفال اسمه؟

قيل في شخص ذي القرنين أقوال عديدة: قيل أنه الاسكندر المقدوني وقيل أنه بختنصر وغيره، والظاهر أنه لا يثبت قول في تعيين شخصه، وكل من ذكروا لم يكونوا على التوحيد فليس ذو القرنين أحدهم قطعا.

وإغفال اسمه ههنا خارج من رحم إغفال أسماء الفتية ومكانهم وزمانهم وأرضهم، فالعبرة بالحوادث والمعاني لا بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. وهم أنه يعلم كل شيء ويعرف كل شيء

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها التبعيض في قوله: سنتلو عليكم منه ذكرا؟

هذا فيه إشارة إلى أن اللذي سيتلى ليست كل القصة وإنما ما يحتاجه القارئ المتدبر من أحداث ومعلومات تخدم قضية السورة، وهكذا الداعية إلى الله ينبغي أن يركز على ما ينفع، فليست مهمته تسلية الناس وشغل أوقاتهم، وإنما هناك غرض من وراء كل قصة ينبغي التركيز عليه، وهذا المعنى بارز ظاهر على طول القصص الأربعة التي تليت وأولها خاصة.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها إسناد التمكين لله بنا الدالة على الجماعة؟

إسناد التمكين إليه جل وعلا معبران عن ذاته العلية بنا الدالة على الجماعة والتي تفيد تعظيم المتكلم، خارج من رحم إسناد الأفعال إلى ذاته العلية بنفس الضمير في قصة صاحب الجنتين.

وكله جار في التأكيد على نسب التمكين لله وحده، فهو الذي يمكن في الأرض ما شاء لمن يشاء، حتى لا يظن القارئ أن تمكين ذي القرنين إنما كان بقوته هو أو بذكاءه هو أو بشجاعته هو، بل كان التمكين محض تفضل وإذن من الله جل وعلا.​​ 

وقد جاء هذا في كل القرآن

ولأجل هذا كان لزاما على من يبحث عن التمكين أن يبحث عن مراد الله لا عن مراده، وأن يحقق مراد الله في هذا التمكين لا عن مراده هو، فإن الذي مكنه في الدنيا سائله يوم القيامة عما مكنه فيه.

وقس على ذلك قوله: آتيناه، فهو الذي يعطي بعد ذلك أسباب التمكين وهو ما دعا به موسى عليه السلام حين قال: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا​​ عن سبيلك، فكان مراد فرعون في غير مراد الله فنزع الله ملكه.

 

ما معنى قوله جل وعلا: وآتيناه من كل شيء سببا، وما مناسبة قوله جل وعلا بعد ذلك: فأتبع سببا؟

أصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء، وقيل في السبب أقوال:​​ 

منها: طريقا يتوصل بها إلى ما يريده​​ كآلات السير وكثرة الجند واستقصاء بقاع الأرض

ومنها: علما

و يقول الرازي في تعريف السبب: أنه ما يتوصل به إلى المقصود من علم وقدرة وآلة

وهذا التفسير من باب التفسير بالنوع، وكل ما سبق مراد، فقد أوتي من كل شيء سببا كما ذكرت الآية: سواء كان علما أم قوة أو كثرة أم استقصاء أم صناعة إلى آخره من أسباب القوة.

التمكين كان بإعطاء الأسباب والمطلوب تفعيل هذه الأسباب.

وأتبع وتبع واتبع لغات بمعنى واحد وهو السير.

ومعنى أتبع سببا: أي سار خلف هذه الأشياء وحصلها ووظفها بحيث يبلغ ما يريد، ومعرفة هذا المبحث التفسيري أمر في غاية الأهمية، فبناء عليه يظهر أن قوله جل وعلا (ثم أتبع سببا) كان في معرض الثناء عليه: فالله عز وجل آتاه الأسباب وهو وظفها وسخرها في مراده الموافق لمراد الله عز وجل.​​ 

 

قضية ملكين مؤمنين وملكين كافرين؟

التمكين ليس علامة على الرضا، فقد يمكن المؤمن وقد يمكن الكافر،​​ والله أعلم بخلق وتدبيرهم، وله الخلق كما له الأمر، وقد يعطي الدنيا لمن أطاعه ولمن عصاه، فلا يمكن الاستدلال بحال على الحق بالتمكين في الأرض،​​ 

 

ما مناسبة الحديث عن وصوله إلى مغرب الشمس: حتى إذا بلغ مغرب الشمس؟

المراد من ذكر المغرب هنا هو ذهابه إلى أقصى ما يستطيع، أي أنه سعى في امتلاك كل الأدوات ​​ ثم استعملها في السعي بها إلى أقصى ما يستطيع، وكأن هذه الآيات تنطق قائلة لقارئها المتدبر: ابذل كل ما تستطيع لامتلاك كل ما يمكنك يوصلك إلى هدفك – وهو تعبيد الناس لله كما قال ربعي بن عامر لرستم - حين سأله ما الذي أتى بكم​​ – قال: أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

وهذه رسالة إلى كل من أوتي سببا من الأسباب في نصرة دين الله: أن يستخدمه ويذهب به أبعد ما يستطيع في سبيل نصرة دين الله وإعلاء​​ كلمة الله وبلاغها للناس، فمن أوتي حفظا أو شرحا أو ذاكرة يوظفها إلى أقصى ما يستطيع.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله : قوما؟

الحديث هنا لبيان ما كان يبحث عنه ذو القرنين: كان يبحث عن بشر يدعوهم إلى الله، لم يكن يبحث عن مال يسلبه أو أرض يحكمها، أو طرق​​ تجارة يفرض فيها المكوس، أو نساء تسبى، بل كان يبحث عن أناس يهديهم، كان همه كله في بلاغ دين الله عز وجل.

فطمع المؤمن لا يكون إلا في إيمان الناس (أفتطعمون أن يؤمنوا لكم) ولأجل هذا عاش الإسلام بين الناس ومات ما سواه من الأديان في قلوبهم، لأنه إنما جاء ليخرجهم​​ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

وهذا يبين لك ما كان يريده ذو القرنين من حيازة أسباب القوة وكيف استخدم كل هذه الأسباب، وتأمل حال ذو القرنين في مقابل حال كثير من الأمم التي صارت بلا هدف كاليابان مثلا، أو صارت تسير ورا هدف باطل كنهب ثروات الأمم واستعبادها.

من القائل: قلنا؟

استدل بها بعض أهل العلم على كونه نبيا، وليس بالضرورة، فاختلفوا في القائل على أقوال:​​ 

قيل إلهاما والإلهام حديث الله لبعض خلقه ممن ليسوا بأنبياء، فيلقي في قلوبهم أشياء كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من قبلكم محدثون)

وقيل: أن الكلام جاء على​​ لسان نبي معه، فكانهو الملك وكان معه نبي والنبي أخبره فكأن الله أخبره بهذا: (وقال لهم نبيهم)

ما هي المعاني التي ينتهي إليها الحوار في قوله جل وعلا: إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا، ورد ذي القرنين بعد ذلك؟

كان هؤلاء القوم الذين وجدهم ذو القرنين كفار، فخيره الله عز وجل بين تعذيبهم بالقتل من أول الأمر قبل دعوتهم وتعريفهم بالهدى، أو أن يتخذ فيهم حسنا: أي أمرا ذا حسن أو أمرا حسنا بجعل المصدر صفة وذلك للمبالغة في الثناء على أمر الدعوة قبل القتال، ووصف الله عز وجل الدعوة بالأمر الحسن فيه تعريض له رحمه الله باختياره فإنه هو المتعين على من لا يريد علوا في الأرض ولا فسادا، وهذه رسالة إلى من مكنه الله عز وجل في الأرض: أن يكون هدفهم الأسمى هو إيصال الهدى للناس لا استعبادهم ولا قتالهم أصلا.

هذا العرض كان لأجل استخراج ما في النفوس: وكأن الله عز وجل يقول: قد عرفناه طلب​​ الأسباب وحازها، واستعملها أبعد استعمال وذهب بها أقصى ما يستطيع وهنا الاختبار الثاني: ما الذي سيفعله وقد حاز كل هذه الأسباب؟​​ 

وهذا من جنس قول جل وعلى (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) فالله عز وجل يستخلف عباده ويمكن لهم حتى يرى ما​​ هم صانعون في هذا التمكين.

فاختار رحمه الله الخيار الثاني، والأمر الحسن فكان جوابه: سأتخذ فيهم حسنا وأدعوهم إلى التوحيد قبل قتالهم: فأما من ظلم ورفض دعوة الحق وعبد الناس لغير الله فليس له إلا السيف والقوة في الدنيا، وعذاب الله في الآخرة، وأما من آمن حقيقة​​ وأثمر هذا الإيمان عملا صالحا، فله الحسنى أي الجنة ابتداء، ولن نأمره إلا بما يكون عليه يسيرا لا صعبا ولا شاقا.

فكان التقسيم عنده واضحا على الإيمان والكفر: من ظلم أي بالكفر ومن آمن فهو بالإيمان.

وأمهل بسوف لمن ظلم واستعجل بالسين على من آمن.

وقوله: ثم يرد: فيه إشارة إلى أن العذاب مهما كان في الدنيا لا يذكر في جانب عذاب الآخرة.

وهذا هو الهدف من التمكين.

والتمكين لا يكون إلا بجمع الأسباب بصورة تراكمية حتى تصل شيئا فشيئا إلى التمكين، لأن التمكين تراكمي، إقامة الصلاة ثم الزكاة هي أنواع من بدايات التمكين، ​​ 

 

ما هي​​ المعاني التي ينتهي إليها تقديم أمر الآخر فيمن آمن وعمل صالحا على أمر الدنيا؟

المتأمل في سياق القصة يجد أنه في سياق الحديث عن المكذبين المعاندين: قدم عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، ليتدرج معهم في التخويف، فمن لم يكفه ​​ وعندما انتقل الحديث إلى المؤمنين قدم ذكر​​ جزاء الحسنى وهي الجنة، وأخر الحديث عن أمر الدنيا والقول اليسير فيها، لتكون الآخرة والحسنى وهي الجنة أول مطلوبات أهل الإيمان، فتأمل هذا الترتيب.

ما مناسبة ذكر مطلع الشمس بعدها؟

ذون القرنين رجل لا يكل ولا يمل، يترك أقصى نقطة هنا ليصل إلى أقصى نقطة هناك، وعادة من يعمل عملا للدين أن تميل نفسه إلى الراحة بعدها، وأن يميل إلى أن يكافئ نفسه لما قدم من طاعة وعبادة، وأكثر ما يظهر هذا في رمضان حيث يميل الإنسان بعدها إلى الراحة والدعة أياما جزاء لما قدم من اجتهاد في الطاعات، إلا أن هذا الرجل لم يستكن أبدا ولم يهدأ ولم​​ يفتر، بل خرج من أقصى الشرق إلى أقصى المغرب مستخدما كل الأسباب كما سبق وقدمنا في سبيل دين الله.

ما مناسبة ذكر القوم الذين لم يجدوا لهم من دونها سترا؟

لم يجدوا لهم من دونها سترا: أي ليس لديهم أي مدنية وأبنية تقيهم حر الشمس وبرد الشتاء، لا بيوت ولا سقوف ولا لباس، ولا يأوون إلى شيء من العمارة، وهذه هي الحالة الثانية التي وجدها ذو القرنين:​​ 

الحالة الأولى: أناس كفار وقف منهم موقف الإيمان.

الحالة الثانية: أناس في غاية البساطة من ناحية المدنية والبناء، فكيف كان موقفه منهم؟

العجيب أن السياق طوى تماما ما حصل بين ذي القرنين وبين هؤلاء القوم، والظاهر أنه سلك فيهم ما سلك في من سبقهم من الأقوام في الدعوة إلى التوحيد وإلى دين الله.

وتأمل حال ذي القرنين وثناء الله عليه في هذا الموضع وتأمل ما فعلته أوربا حين تمكن في الأرض وعلا شأنها: أبادت الأفارقة والأمريكيين الأصليين الذين​​ يسمونهم الهنود الحمر، وهم ليسوا هنودا أبدا بل هم سكان أمريكا الأصليين، أبادهم الأوربيون واستوطنوا أمريكا بدلا عنهم.

ما معنى قوله تعالى: كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا؟ وما هي المعاني التي ينتهي إليها ذكر هذه القضية؟

لديه: الراجح أنه عائد على ذو القرنين،​​ والمعنى أنه: قد أحطنا بكل ما لديه من قوة وعدة وعتاد علما وخبرا، وهذا يشير إلى التهديد، وكأنها تقول للقارئ المتدبر: أنك مهما بلغت من التمكين والعلم والقدرة والآلة فأنت لا زلت تحت أعيننا.​​ 

وهذا الاستحضار مهم جدا لكل من علا شأنه.

وقيل أن المعنى: أن الله قد أحاط بما لديه من نية حسنة خبرا فأهله لهذا المكانة ومكنه في الارض هذا التمكين فالله أعلم حيث يجعل رسالته،​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها: ثم أتبع سببا؟

جاءت هذه العبارة ثلاث مرات في ثلاث رحلات إلى ثلاث جهات، للدلالة على الاستمرار على الهدف: نشر التوحيد في الأرض، فهو لم يدع سببا إلا ويتبع سببا آخر إلى رحلة هداية أخرى.

يشبه قصة موسى عليه السلام: لا أبرح فانطلقا فانطلقا​​ 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: وجد من دونهما قوما؟

ذكر الأقوام في قصة ذو القرنين عجيب، فهو لا يزال يكرر مرة بعد مرة، لأن الإنسان​​ وهدايته وتعبيده لرب العالمين وإخراجه من عبودية الطاغوت إلى عبودية رب العباد هو هدف الشريعة كلها، وإن دل هذا على شيء دل على مركزية الإنسان في الشريعة، وأنها إنما جاءت لإخراجه من الظلمات إلى النور.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله: لا يكادون يفقهون قولا؟

لا تقدم لا يحسنون البيان ما عندهم مال ومع ذلك عندهم مشكلة مع يأجوج ومأجوج، ولكن ذو القرنين لم يتركهم لأن مهمته واضحة وهي القيام بأمر الله.

ما مناسبة قولهم: نجعل لك خرجا؟​​ 

ظنوه ملكا يريد المال، والناس قد يقدمون لك عروضا ليكشفوا عن حالك، فمن قبل عروض المال بان مراده، ومن أباها بان مراده، وهذا عين ما جرى سابقا مع سليمان عليه السلام، فليحذر صاحب الدعوة من الانجرار وراء المال أيا كان.

كان عند هؤلاء القوم الفكرة لكن ما عندهم القوة التي تمكنهم من إنجازها، فتكاملت فكرة القوم مع قوة ذي القرنين لردم الفجوة وحجز يأجوج​​ ومأجوج عنهم، وهكذا تتكون المشاريع فمن ملك فكرة فليبحث عمن يقدر على تطبيقها، ومن أوتي قوة وسلطة فليبحث عن فكرة يحييها لتكون كلمة الله هي العليا. ​​ 

لماذا لم يواجه القوم يأجوج ومأجوج؟

لم يكن القوم يستطيعون مواجهة يأجوج ومأجوج، وقد عرفوا قدرهم وإمكانياتهم، فلجؤوا إلى وضع سد بينهم وبينه، هكذا بعض الفتن لا تقدر على مواجهتها فلا حل عندك إلا أن تضع بينك وبينها سدا يحجزك عنها.

الدجال كان الحل معه الاعتصام بالإيمان ثم المواجهة يقتله عيسى

يأجوج ومأجوج لا يقدر عليهم (إن لي عبادا لن يقدر عليهم أحدا فحز عبادي إلى الطور)​​ الحل كان السد والهروب منهم.

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله: أعينوني بقوة؟

أراد ذو القرنين بحنكته وما آتاه الله من الحكمة أن يشارك الجميع في هذا العمل حتى يستنفذوا فيه كل ما يمكنهم فعله من جهد وطاقة، ومشاركة الناس في المشاريع الكبرى من أهم عوامل نجاحها، وفرق كبير بين المسخرين والمجندين، وبين الشركاء، فالشريك يعطي من نفسه أكثر مما يعطي الأجير أو المسخر.​​ 

وهذا درس لكل من مكن الله له في الأرض: أن أشرك الناس في كل مشاريعك الكبرى ولا تستأثر بشيء منها ولا تسخرهم فيها، حتى يكون لك القدح المعلى في النجاح.

 

ما​​ هي المعاني التي ينتهي إليها التفصيل في شرح صفات السد وطريقة صنعه؟

المتأمل في وصف السد يجد ذكر تفاصيل وطريقة بناءه، وكان يكفي في السياق أن يذكر بناء السد مجملا، إلا أن القرآن فصل في طريقة عمله وبناءه، وهذا يحمل معاني عديدة للقارئ المتدبر:​​ 

منها: بيان أن حديث القرآن عن الآخرة لا يناقض الحديث عن تفاصيل الدنيا، فالقرآن دائما يوازن بين الدنيا والآخرة: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وقال في حق داود عليه السلام: أن اعمل سابغات وقدر في السرد بعد الحديث عن الجبال والطير، فتأمل بيان تفاصيل​​ الصناعة بعد الحديث عن تسخير الجبال والطير لإظهار سعيهم الحثيث في تفاصيل صناعاتهم.

ومنها: استكمال حلقات الحديث عن إتباع الأسباب، فكما سعى ذو القرنين في الأرض من مشرقها إلى مغربها، كذلك يجيب على المؤمن أن يأخذ بالأسباب كاملة.

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها​​ إغفال مكان السد؟

إغفال مكان السد جار على عادة السورة – سورة الكهف – خاصة وعادة القرآن عامة في طي ذكر ما لا يلزم ذكره، فليس الهدف من القصص ههنا التسلي بالحكايات وتسلسل الأحداث ولكن الغرض: الاعتبار بما جرى، فطوى القرآن ذكر ما لا عبرة فيه ولا فائدة من ذكره،​​ وذكره ما ينتفع به القارئ المتدبر من نقاط.​​ 

وإغفال مكان السد متصل ههنا بخيط رفيع بقوله جلا وعلى (قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا)

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله بعد علم السد: هذا رحمة من ربي؟

هذا رحمة من ربي خارجة من رحم قوله جل وعلا في قصة موسى والخضر: رحمة من ربك، ومتصلة قبلها بقوله جل وعلا على لسان الفتية: آتنا من لدنك رحمة، وبقوله جل وعلا: وربك الغفور ذو الرحمة وكل ذلك يضفي على السورة لمسة رحمة ربانية، لا يخطؤها قلب القارئ المتدبر، وهه اللمسة يحتاجها المؤمن وهو يصارع الفتن ويدافعها، فارا بدينه تارة ومحاورة الكفرة تارة، ومتعلما تارة، ومتمكنا تارة أخرى.

 

 

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله: فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء؟

هذا في مقابل قول الكافر: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، الغرض المقارنة بين قول هذا وهذا.

لم يغتر ذو القرنين بقوة السد وإنما وكل الأمل إلى الله بعد استفراغ كل أسباب النجاح المادية.

 

 

 

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved