إبليس أصل الفتن

​​ (أس الفتن)

( قصة إبليس)

 

​​ وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلا ﴿٥٠﴾ ۞ مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدا ﴿٥١﴾ وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقا ﴿٥٢﴾ وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفا ﴿٥٣﴾ وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡء جَدَلا ﴿٥٤﴾ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلا ﴿٥٥﴾ وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوا ﴿٥٦﴾ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡراۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدا ﴿٥٧﴾ وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم​​ مَّوۡعِدٞ​​ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلا ﴿٥٨﴾ وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدا ﴿٥٩﴾

ما هو موضوع هذا الفصل، وما مناسبته لما قبله؟ وما مناسبته لمقصد السورة؟

وما بين المشهدين الختامين الدنيوي والأخروي في قصة صاحب الجنتين تقرير لخلاصة القصة ومستقر حكمتها وحقيقتها الكبرى، حقيقة الدنيا وطبيعتها الفانية ومآل زينتها، والمدهش أن الحقيقة موضحة كذلك بمثل يضرب لنا:

{وَٱضۡرِبۡ لَهُم م‍‍ثَلَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱل‍‍دُّنۡیَا كَم‍‍اۤءٍ أَن‍‍زَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱل‍‍سَّم‍‍اۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِیمࣰا تَذۡرُوهُ ٱل‍‍رِّیَـٰحُۗ وَكَانَ ٱل‍‍لَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ م‍‍ق‍‍تَدِرًا() ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱل‍‍دُّنۡیَاۖ وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱل‍‍صَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ ع‍‍ن‍‍دَ​​ رَبِّكَ ثَوَاب‍‍ا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا}

 

العجيب أنه يتبع ذلك مباشرة، وبينما نحن مستغرقون في لحظات الختام، عودة مفاجئة إلى لحظات الخلق الأولى﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦۤۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّیَّتَهُۥۤ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِی وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِینَ بَدَلࣰا﴾، ليتبين لنا في أسى أن أصل كل الشرور كان تلك اللحظة التي يعجب فيها المخلوق بنفسه فتطغيه حتى تنسيه ربه فيجحد نعمه ويتمرد على أوامره، فعندما قال صاحب الجنتين {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} كان في الحقيقة يتبع خطى إبليس حين قال {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، نفس الأنا الطاغية المعجبة بنفسها في مواجهة الآخر الأقل والأذل​​ 

وهكذا تنتهي القصة لكن أثرها فينا لا ينتهي، فالسياق منذ هذه اللحظة وحتى بداية قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح يؤكد على نفس المعاني والحقائق بتنويعات كثيرة، فالناس يرون الحقائق ويجحدونها ولا يستسلمون حقا إلا عند معاينة العذاب في الدنيا والآخرة، إنهم يعرضون عن الآيات ويجادلون فيها رغم تصريفها حتى تأتي لحظة لا يجدون فيها عن النار مصرفا:

{وَلَق‍‍دۡ صَرَّفۡنَا فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ ل‍‍ل‍‍ن‍‍اسِ م‍‍ن كُلِّ مَثَلࣲۚ وَكَانَ ٱلۡإِن‍‍سَـٰنُ أَكۡثَرَ شَیۡءࣲ جَدَلࣰا ۝وَمَا مَنَعَ ٱل‍‍ن‍‍اسَ أَن ی‍‍ؤۡمِنُوۤا۟ إِذۡ ج‍‍اۤءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّهُمۡ إِل‍‍اۤ أَن تَأۡتِیَهُمۡ س‍‍ن‍‍ةُ ٱلۡأَوَّلِینَ أَوۡ یَأۡتِیَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلࣰا ۝ وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ إِلَّا مُبَشِّرِینَ وَم‍‍ن‍‍ذِرِینَۚ وَیُجَـٰدِلُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِی‍‍دۡحِضُوا۟ بِهِ ٱلۡحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤا۟ ءَایَـٰتِی وَم‍‍اۤ أُن‍‍ذِرُوا۟ هُزُوࣰا ۝}

وأعجب ما في مناسبة هذا الفصل للسورة الكريمة أن إبليس محرك خيوط هذه الفتن كلها (فتنة الدين والمال قبله وفتنة العلم والتمكين بعده) يظهر في السورة الكريمة في الآية الخمسين، متوسطا القصص الأربعة فقبله قصتان في تسع وأربعين آية، وبعده قصتا العبد الصالح وذو القرنين في تسع وأربعين أخرى، في إشارة إلى أن محور الشر ومحرك كل هذه الفتن هو إبليس العدو الأول للإنسان خليفة الله في أرضه.​​ 

ومن اللافت للنظر في هذا الفصل تكرر كلمة الموعد ثلاث مرات، بل وتختم الفصل بها لبيان إحاطة الله بكل شيء وأنه القادر على كل شيء بل هو الفاعل الحقيقي في تأقيت هلكة القرى.

ما مناسبة قوله جل وعلا بعد قصة إبليس: ما أشهدتهم خلق السموات والأرض .. الآية؟

هذه الآية واحدة من ثلاث آيات متتابعة تأتي في تصريف الكلام على اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله وهم عدو في​​ حقيقة أمرهم.

تأتي الآية الأولى لتتمم المعنى الذي كان قبلها وتعلله، فهي تبين ما وجه المنع من اتخاذهم أولياء، فإنهم لم يشهدوا خلق السموات والأرض، ناهيك عن خلق أنفسهم وهذا إشارة إلى الفاعل الحقيقي في الخلق وهو الله عز وجل، وأنه منه جل وعلا كان ابتداء الخلق، فهو أحق بالولاية.

وابتدأ الحديث بخلق السموات والأرض لأنها أعظم خلقا وأسبق من خلق الأنفس، وألحق الحديث عن خلقها بالحديث عن خلق الأنفس جريا على العادة القرآنية في الاستدلال بخلق السموات والأرض وخلق الأنفس (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم الحق).

وتأتي الآية الثانية في قوله (ويوم يقول نادوا شركائي ..)، في سياق تصريف الأمثال وعرض الصور المختلفة لذلك اليوم، وهي صورة الشركاء المزعومين إذ يتخلون عن هؤلاء الذين اتخذوهم أولياء في الدنيا، والحري بالولي أن يسارع في وليه، وههنا تظهر الولاية الحقة، وكأن​​ هذه الحادثة مرتبطة بخيط رفيع بقوله جل وعلا آنفا (هنالك الولاية لله الحق)

أما الآية الثالثة: فهي تأتي لتختم المشهد برؤية هؤلاء المجرمين النار وعلمهم اليقين أنهم واقعون فيها بعد تخلي شركائهم عنهم، وهذه هي العاقبة الحتمية لهذا الشرك، عاقبة (المجرمين) الذين أصابهم الفرق عند رؤية كتابهم، والذين علموا أنهم أهل النار حين عاينوها.

وتختم الآية التي بعدها في بيان سبب ذكر هذا التفصيل وهذه الأوجه (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل .. )الآية.

 

 

​​ ما معنى قوله جل وعلا: وما منع الناس أن يؤمنوا .. الآية؟

معنى الكلام:​​ أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.

وأظهر الاستغفار ههنا مع أنه من دواعي الإيمان تنبيها على أهميته، وعلى ذنوبهم المستوجبة لهذا الاستغفار، ,وإلهابا لهم وحثا لهم على لزومه مستحضرين ذنوبهم.

وسنة الأولين: أي العذاب المستأصل الذي أصاب الأقوام قبلهم، والعذاب ههنا هو عذاب الآخرة، وقيل في قبلا أقوال:​​ 

الأول: أنها بضم القاف والباء جمل قبيل كسبل جمع سبيل، أي يأتيهم العذاب من كل صنف ونوع.

الثاني: أنها بكسر القاف وفتح الباء أي مقابلة ومعاينة، أي​​ يعاينون العذاب إذ يأتيهم من قبل وجوههم.

الثالث: بفتح القاف والباء بمعنى مستقبلا، فإن عذاب الآخرة يأتيهم بعد موتهم.

وتأمل كل هذه المعاني المطوية في هذا اللفظ الواحد زيادة في الترهيب، ولو جاء بلفظ واحد يفيد نوعا واحدا لما أفاد كل هذه المعاني المطوية في ثنايا​​ هذا اللفظ المحتمل الأوجه.

 

ما مناسبة قوله جل وعلا: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ..الآية؟

للدلالة على أن مهمة الرسل ليس الإتيان بالآيات وإنما البشارة والنذارة، أما محل الدعوة – أنت-، إما أن تقبل البشارة وتحذر النذارة أو تكون من المجرمين الذين سبق​​ الحديث عن عاقبتهم.

ومما يؤيد هذا ما جاء بعدها مباشرة من قوله (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق)، فهم لا يقابلون هذه الرسالة إلا بالجدل الفارغ، وهذه النذارة بالهزء والسخرية (واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا).

ما هي المعاني التي ينتهي إليها قوله جل وعلا: ليدحضوا به الحق؟

أهل الباطل لا يأتون بمشروع بديل عن الحق وإنما همهم هو زعزعة الناس عن الحق، ليقعوا في الباطل، وشبهوا كلامهم بالطين المستقذر،

 

ما هي المعاني التي يتنهي إليها قوله جل وعلا: ومن أظلم ممن ذكر.. الآية؟ وما هي مناسبتها لهذا الفصل؟

تشعر وكأن هذا الكلام خارج من رحم قوله جل وعلا في أول السورة (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)، وتأتي هذه الآية في بيان حال رافضي النذارة الذين يجادلون بالباطل ويتخذوا آيات الله هزوا.

ثم تاتي الآية التي بعدها في سياق تصريف الأمثلة وتقليب وجوه​​ الكلام على المكذبين، واللافت للنظر ههنا هو ذكر أصناف عديدة من مقابلة الآيات، مثل الجدال، والإعراض، ونسيان الأفعال، والحديث عن الظلم والإجرام، وكل هذا في تصريف الأمثال تطبيقا عمليا لقوله جل وعلى (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)، فتارة يقص عليه الحال وتارة المآل وتارة ما بينهما من أفعاله، وتارة سرعة ما جرته عليه من طمس ووقر.

وكأن هذه الآية والآيتين بعدها تجيبان عن تساؤل: طالما كان هذا حالهم في التكذيب لماذا لا يهلكهم الله ويعاجلهم بالعقوبة؟​​ 

فبينت الآيات الثلاث عقوبة عاجلة على تكذيبهم وإعراضهم، وتغافلهم عن هذا التكذيب والإعراض، عقوبة عاجلة وهي الطمس على القلوب والأسماع، ثم بينت أن الله عز وجل – واصفة إياه بالغفور ذي الرحمة – قادر على تعجيل العذاب، وأنه إنما يؤخرهم لموعد محدد، يقرره هو بعلمه جل وعلا، ولكن هذا الموعد إذا حل لن يجدوا منه ملجئا ولا ملاذا.

فإن تشكك متشكك أو تحرك في نفسه شيء من التكذيب، تاتي الآية الثالثة لتطفئ حر هذه التساؤلات بأمثلة تاريخية لا نزال نرى آثارها حتى يومنا هذا، وكما أهلك الله عز وجل هذه القرى بظلمهم بموعد محدد، فهو القادر على أن يهلكهم بموعد مقرر كما أهلك من كان قبلهم.

وانظر​​ إلى افتتاح هذا الفصل الجزئي – إن صح التعبير – بالظلم ( ومن أظلم ممن ذكر ..) واستمراره حتى قوله جل وعلا (أهلكناهم لما ظلموا) وهاتان الآيتان مرتبطتان بخيط رفيع بما قبلها من الحديث عن الظلم (من أظلم ممن افترى على الله كذبا) وقوله (ولا يظلم ربك أحدا).

 

 

جميع الحقوق متاحة للمسلمين دون اشتراط ذكر المصدر © 2023 7a9ad.com. All Rights Reserved